تُعد الثقافة العامل الأهم في تكوين خصائص الشعوب لأنها تُمثل الرؤية الفكرية و الواقعية لها ، فالثقافة هي مجموعة المعارف التي تُسهم في تكوين المرء و عندما يحاول ذلك الإنسان أن يختار لنفسه موقفاً فكرياً أو سلوكياً فإنما يختاره من خلال ما تركته ثقافته في نفسه من آثار و ملامح و تصورات و لعله من الصعب فصل حال المرء عن ثقافته لأنها المصدر الأهم لفكره ، و إذا كانت الثقافة إنسانية الملامح و أخلاقية الاختيارات كان الفكر وليد إبداع العقل ، ﻭ تختلف الأمم باختلاف ثقافاتها المُعبرة عن قيمها و أدبياتها ، و إذا افتقدت الأمة ثقافتها المتميزة كان فكرها متناقضاً لأنه سيُمثل ثقافات عديدة غير متجانسة أو منسجمة ستؤدي به إلى التفتت و الانصهار عند أول طرقة باب خطر خارجي ثقافي كان أم اجتماعي أو حتى سياسي ، و بناءً عليه يتوجب التنويه إلى أن الثقافة التي لا تسعى في سبيل سمو نفس الإنسان و سعادته لا يمكن أن تكون ثقافة حضارة حقيقية .
لا يمكن إنكار دور الثقافات المتعددة في توليد إمكانات الإبداع من خلال نماذج عديدة يُصاغ منها موقفاً فكرياً متجدداً ، و الإبداع مطلب ملح و شرط ضروري لكل نهضة و تطور لأنه أداة التطوير و التجديد فلا يمكن الانتقال من مرحلة لأخرى إلا عن طريقه ، فالإبداع هو الموقف أو التصور الذي يتجاوز الواقع و يلغيه و هو ظاهرة محمودة و مفيدة و يعبر عن قدرات عقلية متفوقة رغم خطورته في بعض الأحيان بسبب الفوضى الفكرية التي تُسهم في إرباك العقد الاجتماعي و النسيج الإنساني الذي أسهمت البشرية في صياغة معالمه ، و لا يخفى بأن الإبداع الذي ينطلق من ثقافة راسخة و عميقة لا يمكن إلا أن يكون إبداعاً عقلياً حقيقياً و مفيداً و البشرية عموماً بحاجة لذلك الإبداع لكي تتمكن من تجديد فكرها و ذاتها و تحديد ملامح إختياراتها الفكرية ، و من الجدير الإشارة هنا إلى ضرورة الثقة بالعقل البشري لأنه يمثل الخاصية الإنسانية فالإنسان يتميز برجاحة عقله و العقل هو المخاطب و هو المسؤول كما أن الفكر لا يمكن أن يجد له مستقراً في الجسد الإنساني إلا في الساحة العقلية حيث تتفاعل القوى الإنسانية القادرة على الفهم و التمييز لترسيخ صدق العقل في تعبيره عن اختياراته بمعيار حقيقي .
تتميز الثقافة الإبداعية بخصائص ذاتية تجعل منها ثقافة متجددة ذات طبيعة إنسانية تُؤمن بالإنسان و تتفاعل بحيوية مع حاجاته و قضاياه و ترتقي بميوله و استعداداته لكي تكون في مستوى التميز الإنساني عن سائر المخلوقات ، و يمكن تلخيص هذه الخصائص بما يلي :
– احترام المصالح الاجتماعية : فلا يمكن للثقافة أن تكون مُغايرة لقضايا الإنسان و مُتجاهلة لمصالحه و مطامحه و غير مُجسدة لهمومه و آلامه .
– تقدير العقل البشري : و هذه الخاصية تكون مُدركة من خلال الاعتراف بدور العقل في تفسير الحروف و الكلمات و النصوص ، و الثقافة التي لا تحترم العقل البشري محكوم عليها بالتوقف و التراجع و الجمود لأن العقل هو أداة النماء و الإثراء و لا يمكن له أن يكون في موطن التجاهل لأن الثقافة التي تتجاهل العقل فمن اليسير أن يتجاوزها و يتنكر لها .
– تنمية إنسانية الإنسان : تجعل هذه الخاصة عموم الثقافات متفاوتة نسبياً في مكانتها و أهميتها فالثقافات الضيقة لا تستطيع أن تُسهم إطلاقاً في تعميق القيم الإنسانية لأنها تجعل معايير التفاضل بين البشر معايير قائمة على أساس المصالح و الانتماءات و هذه المعايير تُعمق جذور التناقض و التصادم و التنازع ، و بكل الأحوال لا بد للثقافة من أن تكون أداة للتلاحم و التكافل لكي يستقيم أمر سائر البشرية و يتعاون أقصاها مع أدناها في سبيل رسم صورة بشرية متميزة بألوان خصائصها الإنسانية .
د. بشار عيسى / سورية