شهدت البشرية جمعاء سلسلة مُتصلة من الثورات التكنولوجية التي يحدوها الأمل إلى فتح آفاق واسعة من الرفاهية و الاستنارة و الرخاء و تحقيق أغلب الآمال التي سيظل المرء يُطاردها رغم أنها بعضها عسير المنال ، و بات جلياً لعين الناظر بأن الديمقراطية السياسية السائدة حالياً ما هي إلا وهم زائف حيث ينتهي دور المرء في ظلها بمجرد أن يُسقط بطاقة اختياره في صناديق الانتخاب التي ساقته أقدامه إليها بعد أن يكون الإعلام السياسي قد فعل بعقله ما فعل بغض النظر عن معرفة الجميع بمدى نزاهة العمليات الانتخابية في عدد كبير من البلدان ، و هناك من يزعم بأن عالم الانترنت و شبكات التواصل الاجتماعي ستُسقط الحلقات الوسيطة بين الدولة و المواطن لتُحقق نوعاً جديداً من الديمقراطية المباشرة التي يُشارك فيها الجميع في عملية اتخاذ القرار مع عدم إغفال نقطة مهمة تتجلى في أن هذه الآلية ستوفر الإمكانية الفعالة لعملية السيطرة على جحافل المواطنين من خلال تسجيل مواقفهم و أفعالهم وصولاً إلى الكشف عن ميولهم و أهوائهم الثقافية و العقائدية و كذلك السياسية ليكونوا أكثر عُرضة للرقابة الالكترونية التي لا يغفو لها عين .
يُخفف عالم الانترنت من شدة قبضة البيروقراطية بفعل أتمتتها لكثير من نُظم الخدمات دونما حاجة إلى أثر أي تدخل بشري علاوة على الشفافية المعلوماتية العالية التي تُساهم بتوفيرها مع نسف و إزالة عنوان احتكار المعلومات و التعتيم عليها ، و مما لا شك فيه بأن لتطبيقات الانترنت الأثر الواضح في تنمية القدرات الذهنية و كذلك متابعة الأعمال و إتمامها و توظيف المهارات و نجاح استثمارها و ما تنطوي عليه من إمكانات هائلة و مُتشعبة تستطيع تغيير خارطة عالم التكنولوجيا و فضاء المعلومات بسلبياتها و إيجابياتها و هذا ما يُفسر الاهتمام الشديد الذي يُوليه معظم الباحثون في مجال علم النفس و الذكاء أيضاً بهدف دراسة أثر تطبيقات الإنترنت و وسائط التواصل الاجتماعي على كل نواحي اكتساب المعرفة و توظيفها بشكل سليم ، و بات من المعلوم للجميع بأن مقياس التفاؤل و التشاؤم في عصر المعلومات و منصات التواصل الاجتماعي الالكتروني تتحكم به مجموعة رئيسية من الأسباب و العوامل لعل أبرزها على سبيل الذكر لا الحصر :
– الاختلاف الجوهري لطبيعة تكنولوجيا المعلومات و الاتصال في تعاملها مع عناصر المجتمع الإنساني .
– كثرة البدائل و الاحتمالات المطروحة نتيجة المرونة العالية التي تتميز بها قدرات التكنولوجيا الحديثة .
– مع مداهمة وسائط التكنولوجيا لعالم الاقتصاد و السياسة و المجتمع و نظراً لأن الخريطة الجيوبولتيكية أبعد ما تكون عن الاستقرار فإن إقامة أي مجتمع عصري معلوماتي هو بمنزلة بُنيان يصعب تحديد معالمه بشكل واضح و تقريبي .
يزعم البعض اعتقاداً بأن إتاحة غالبية وسائل الانترنت و وسائطها لأهم موارد التنمية المُتمثلة في صنوف المعرفة و ألوان المعلومات ستُوفر مناخاً أفضل لتحقيق العدالة الاجتماعية و منح فرص مُتكافئة للتعلم و التعليم مما يُضيق الهوة الفاصلة و الفوارق القاسمة بين الفئات الاجتماعية المختلفة ، و مع توفير وسائل عديدة جداً للحوار عبر الانترنت بين الأفراد و الشعوب و حتى ضمن أروقة المؤسسات فهذا سيُمكن من تمهيد ساحات الحوار البناء و كذلك المثمر بين ثقافات الشعوب ليمزج بينها دون أن يطمس لون هويتها و خصوصيتها ، مع ضرورة الانتباه إلى حيثية هامة للغاية تتمثل في أن ثقافة الانترنت ربما كانت هي المدخل الأمثل و الأجدى لتحقيق أمل البشرية جمعاء في إرساء لغة ثقافية تُمهد لسلام حقيقي و دائم تنعم في ظله سائر البشرية في بانوراما من تنوع الثقافات المتعددة على الرغم من هاجس الإفراط المعلوماتي ضمن عين الإعصار التكنولوجي الذي يُعد فعلاً مشكلة تُواجه العقل الإنساني في مدى قدرته على مهمة استقبال و تلقي هذا الكم الكبير من أنهار المعلومات الزائدة التي ليست إلا شقاً واحداً من منابع المعرفة التي تمتزج فيها المعلومة مع الحدس و الخبرات العملية و القدرة على الحكم بحنكة و خبرة .
د. بشار عيسى / سورية