يشهد العالم منذ فرض العقوبات “الأحادية الذكية” من قبل الغرب على روسيا[التي كانت تتوقعها موسكو، كما أشار إلى ذلك الرئيس الروسي”بوتين” في ٢٠٢٢/٢/١٨]، قلقًا متزايدًا يومًا بعد يوم منذ ٢٠٢٢/٢/٢٤ على مستقبل الإقتصاد العالمي[ خصوصًا المواد الغذائية]، وعلى السلام والأمن الدوليين، بسبب خطورة هذه العقوبات التي هي سلاح ذو حدين، ومنها: عقوبات قطاع الطاقة، والبتروكيماويات، وقطاع التكنولوجيا والاتصالات، والقطاع المالي والمصرفي.
هذا وكانت صحيفة “الفاينانشيال تايمز” الثلاثاء ٢٠٢٢/٢/٨ تحليلًا كتبه ثلاثة من مُحرريها الاقتصاديين، أكّدوا فيه على أن هذه العقوبات سوف تُلحق أضرارًا ضخمة بقطاعات الطاقة، والتجارة، والتصنيع، والبنوك، والأسواق في أوروبا..وقد تسببت هذه العقوبات في تفاقم سلسلة صدمات الإمداد التي لحقت بالاقتصاد العالمي في السنوات الأخيرة.
فعلى غرار الموجات الارتجاجية الناتجة عن الزلازل، انتشرت آثار هذه الصدمات على مدى بعيد ونطاق واسع، من خلال أسواق السلع الأولية والتجارة والروابط المالية، لأن روسيا هي من كبار موردي النفط والغاز والمعادن، كما تعد هي وأوكرنيا من كبار موردي حبوب القمح والذرة وعباد الشمس، لذلك فقد أدى التراجع في إمدادات هذه السلع الأولية إلى ارتفاع حاد في أسعارها، ووقع التأثير الأكبر لهذا الإرتفاع على مستوردي السلع الأولية في أوروبا، والقوقاز وآسيا الوسطى، والشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وإفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، كما أضر ارتفاع أسعار الغذاء والوقود بالأسر الأقل دخلًا على مستوى العالم أجمع، بما في ذلك في الأمريكتين وباقي آسيا.
وأشير في هذا السياق إلى أن أوروبا الشرقية وآسيا الوسطى يرتبطان بروابط ضخمة مباشرة مع روسيا من خلال التجارة والتحويلات، لذا فقد طالتهما المعاناة بقوة،مع الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، كذلك أدى نزوح حوالي ٤،٥ ملايين مواطن أوكراني إلى البلدان المجاورة، ولا سيما بولندا ورومانيا ومولدوفا وهنغاريا، إلى تفاقم الضغوط الاقتصادية في المنطقة.
وهذا ما جعل آفاق الاقتصاد العالمي تشهد انتكاسة حادة، تكشّفت تطوراتها في الوقت الذي لم يكن الاقتصاد العالمي قد تعافى من جائحة الكورونا بشكل كامل بعد، فقبل اندلاع الأزمة الأوكرانية، استمر ارتفاع معدلات التضخم في العديد من البلدان نتيجة اختلالات العرض والطلب ودعم السياسات أثناء الجائحة، مما أدى إلى تشديد السياسات النقدية.
هذا ويمكن أن تتسبّب تدابير الإغلاق العام التي أعلنتها الصين مؤخرًا، بعد ان اجتاحتها موجة جديدة من جائحة كورونا، إلى مزيد من الاختناقات في سلاسل الإمداد العالمية..وفي هذا السياق، وبخلاف التداعيات الإنسانية المباشرة والفادحة للأزمة الأوكرانية، فإنها ستؤدي إلى إبطاء النمو الاقتصادي ورفع معدلات التضخم.
حيث تم تخفيض توقعات النمو العالمي إلى ٣،٦% لعامي ٢٠٢٢ و٢٠٢٣، ويعكس ذلك التأثير المباشر للأزمة الأوكرانيةوالعقوبات على روسيا، حيث يُتوقع أن يشهد كلا البلدين انكماشات حادة في معدلات النمو، وفي الاتحاد الأوروبي وفي بريطانيا، تم تخفيض توقعات النمو للعام الجاري بأكثر من ١،١ نقطة مئوية نتيجة الآثار غير المباشرة للأزمة الأوكرانية، مما يجعله ثاني أكبر مساهم في تخفيض التوقعات الكلية في العالم هذا، وقد شهدت منطقة اليورو والولايات المتحدة ارتفاعًا في معدلات التضخم إلى مستويات خطيرة لم تحدث منذ ١٩٨٠ و٢٠٠٨، وذلك بسبب نقص المواد الخام وارتفاع أسعار الطاقة، وقد أثار هذا الارتفاع فزع المستثمرين على مستوى العالم، وسط حالة قلق من تكرار سيناريو اضطرار البنوك المركزية إلى رفع أسعار الفائدة أكثر من مرة- كما يحدث الآن- من أجل كبح جماح ارتفاع الأسعار.
وفيما يتعلق بمنطقة اليورو، فقد أشار البنك المركزي الأوروبي إلى أن الأسعار قد ارتفعت بسبب عوامل وصفها بالمؤقّتة أبرزها: نقص الإمدادات وارتفاع أسعار الطاقة.. فيما توقع البنك انخفاض معدلات التضخم بمجرد سد الفجوة بين العرض والطلب على مستوى العالم، الّا أن رئيس البنك المركزي الألماني تخوّف أمس من شبح التضخم الأسود في ألمانيا الذي سيصل إلى ٧،٥%.. هذا، ويتوقع الخبراء أن يستمر ارتفاع معدلات التضخم خلال العام المقبل ٢٠٢٣، وهذا ما سيضع البنوك المركزية الأوروبية في موقف حرج جدًا
.. أما في الولايات المتحدة، فالتأثير الآن أشد قسوة مع توقعات بارتفاع التضخم بشكل أكبر يضعه في مستوى تضخم ١٩٨٠، وذلك بسبب عمليات التحفيز المالي الهائلة، بالإضافة إلى نقص العمالة والإمدادات.
وهذا ما سيؤدي إلى زيادة ملحوظة في حجم القلاقل الاجتماعية المحتملة في البلدان الأكثر فقرًا، المستوردة للمواد الغذائية، خصوصًا في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، بسبب ارتفاع أسعار السلع الأولية، وزيادة أسعار الفائدة العالمية، مما سيؤدي إلى تقليص الحيز المالي بدرجة أكبر.
وهذا ما سيؤدي إلى تقسيم الاقتصاد العالمي بشكل دائم إلى كتل “جغرافية-سياسية” لكل منها معايير تكنولوجية ونظم مدفوعات عبر الحدود، وعملات احتياطي خاصة بها، مما سينشأ عن هذا “التحول الهيكلي” تراجع في مستويات الكفاءة على المدى الطويل والمزيد من التقلبات، فضلًا عن أنه سيفرض تحديات كبيرة، أمام الإطار القائم على القواعد الذي ساهم في تنظيم العلاقات الدولية والاقتصادية على مدار الخمسة والسبعين سنة الماضية…
يحيى أحمد الكعكي