يصادف اليوم ٢٢ فبراير/شباط مرور ٦٤ عامًا على قيام الوحدة بين مصر وسوريا تحت مسمى “الجمهورية العربية المتحدة”، التي تحمي ولا تهدّد، تصون تبدّد، تُسالم من يسالمها، وتُعادي من يّعاديها، إنه الحدث التاريخي الذي عشناه يومًا بيوم، و لم تعشه أجيال الحاضر، التي لا ترى بصيص أمل في إشراقة فجر تتوحد فيه الصفوف، برؤية واحدة موحَّدة و مؤحِّدة، من أجل غدٍ عربي أفضل.
لم تكن الوحدة المصرية السورية، التى أعلنت في ١٩٥٨/٢/٢٢، انخراطًا فى أوهام ومغامرات بقدر ما كانت تعبيرًا عن صراع محتدم على المنطقة ومستقبلها،فبحكم موقعها الجغرافى لم يكن ممكنًا ل”سوريا” أن تنغلق على نفسها تحت أى ادعاء، أو أن يكون لها مستقبل خارج عالمها العربى بأية ذريعة،ولا كان بوسع “مصر”، التى باتت قوة إقليمية عظمى بأثر النتائج السياسية للعدوان الثلاثي [البريطاني الفرنسي الإسرائيلي]، أو ل”حرب السويس” ١٩٥٦، ألّا يمتد بصرها لما يحيق بالوطن السورى من مخاطر، ومنها الانقلابات العسكرية المموّلة،أو إثارة الفتن الداخلية.
أو بتهديدات الغزو من الخارج بقيادة رئيس الوزراء العراقى آنذاك “نورى السعيد”، الوجه الأبرز لـ”حلف بغداد”[هو أحد الأحلاف التي شهدتها حقبة الحرب الباردة، أسّس ١٩٥٥/٢/٢٤، كان مقره الرئيس “أنقرة” حُلّ ١٩٧٩، كان إنشاؤه من قبل واشنطن، ولكنها لم تدخله وتركت إدارته لبريطانيا، بهدف أن يكون خط دفاع أول في الشرق الأوسط ضد الإتحاد السوفياتي القديم، وكان يتكون إلى جانب بريطانيا من العراق- انسحبت بعد الثورة العراقية ١٩٥٨/٧/١٤- وتركيا وإيران – انسحبت منه بعد الثورة١٩٧٩- وباكستان].
لقد تحققت “الوحدة الحلم” بفعل هدير تيار الإعصار الجماهيري الذي زلزل الأرض من تحت أقدام المتآمرين على الأمة وخصوم العرب في ذلك الوقت، تمخض الإعصار عن وحدة بين بلدين عربيين لا تجمعهما حدود مشتركة وإنما جمعهما تاريخ ومصير مشترك؛ عبر الأزمنة؛ ثم ما لبث أن أتت زوبعة انفصالية بعد ثلاث سنوات ونصف السنة في ١٩٦١/٩/٢٨ لتهدم صرح الوحدة. وبعد الإنفصال صار إسم سوريا”الجمهورية العربية السورية”، بينما حافظت “مصر عبدالناصر” على إسم “الجمهورية العربية المتحدة”، ليُغيّر في عام ١٩٧١ إلى إسم” جمهورية مصر العربية”.
وكأن ” الزعيم ناصر” توقع يوم إقامة هذا الصرح بزواله، إذ قال في خطابه التاريخي في ١٩٥٨/٢/٥ في مجلس الأمة المصري، بعد الإعلان عن أسس قيام الوحدة :”أننى أرى أنه من واجبى فى هذه اللحظات أن أصارحكم، وشعب الجمهورية العربية المتحدة كله معكم، أن الطريق الذى نُقبل عليه طويل وشاق، إن رحلتنا عليه ليست نزهة نروّح بها عن النفس؛ وإنما رحلتنا عليه مشاق ومتاعب وكفاح وجهاد، ولكن هذه كلها هى الثمن العادل للأمل الكبير الذى نسعى إليه، ولسوف يُضاعف من مصاعب ما سوف نلقاه أمامنا على الطريق، أن الذين لا تروقهم وحدة سوريا ومصر ولا توافق أغراضهم، لن يتقبلوها بالرضا والسكوت، وإنما ستكون المساعى وستكون المحاولات وستكون المناورات؛ لهذا أقول لكم من الآن إننا فى سعينا على طريق أملنا يجب أن نظل مفتوحى الأعين، متنبهى الحس والوجدان”.
إن السياق التاريخى ضرورى لفهم ما جرى من تدافع للحوادث وصلت ذروتها بإعلان “الوحدة المصرية السورية”، لقد كان “الزعيم ناصر” يخوض حربًا مفتوحة ضد سياسات ملء الفراغ والأحلاف العسكرية، التى تبنتها الولايات المتحدة القوة الدولية العظمى الصاعدة بعد تقويض مكانة الإمبراطوريتين السابقتين البريطانية والفرنسية، وحينما نشاهد على شرائط مسجلة مئات آلاف البشر تتدافع إليه حينما زار دمشق لأول مرة، فلا بد أن ننصت لصوت التاريخ، وندرك بالعمق أنها كانت تهتف للمعنى قبل الشخص، وأن هذه لم تكن “انفعالات عواطف” بل حقائق تاريخ يجسدها رجال.
وهذا كان المقصود تمامًا من تصويب السهام، كل السهام، حقبة بعد أخرى على تجربة الوحدة المصرية السورية، التي حفظها التاريخ في وثائقه، ومنها الأغاني التي نُظّمت فيها، ومنها أنشودة ” وحدة ما يغلبها غلاب” التي صدح بها الفنان المصري “محمد قنديل”، ولحنها الملحن المصري السينمائي “عبدالعظيم عبدالحق”.. وهي من كلمات الشاعر المصري الشهير بكتابة الشعر العامي والزجل “محمود بيرم التونسى”.. والتي لاتزال في البال بعد ٦٤ عامًا على إعلان الوحدة، والتي منها” أنا واقف فوق الأهرام وقدامي بساتين الشام”.
يحيى أحمد الكعكي