يبدو المِلحُ الأساسي الذي يغذّي الشعوب والحركات الاجتماعية الناهضة والرافضة والمسكونة بنقد الحكومات والتظاهر وشعارات التغيير المتقاربة ذا طعمٍ عالمي مغرٍ ومُثير للأحاديث والأبحاث الجدلية الشائعة.
تبدو الديمقراطية، وفقاً لهذه الفرضية، مفهوماً خرج من أطره النظرية الأولى مع آباء الفكر للثورة الفرنسية، بل صار هدفاً معاصراً خاضعاً لأمزجة الجماهير بما يُفرغه من صلاحيته ومضامينه وتجاربه القديمة.
قد لا تكون العلة سوى في تشويه الديمقراطيات ومعضلاتها بتجارب ما عادت تُداوي ملل الناس ورفضها سوى بالنقد والنزول إلى الشوارع والعنف.
تلك ظاهرة كونية في القناعات والقيم وحتّى في الهويات العامة الوطنية التي بدت دون الهويات الفردية والعالمية المكتسبة والتي يصعب تحديد آثارها في الانتخابات المتنوعة والأنظمة المتعددة.
تسحبنا هذه التحولات إلى الانتخابات الرئاسية الأميركية التي أوصلت جو بايدن إلى البيت الأبيض وكأنّه المقيم مع سلفه دونالد ترامب في الصحافة ورصد مزاج الرأي العام الأميركي المنتظر.
وبصرف النظر عن الفروقات في شكل الحكم والأسلوب بين الرجليْن، فإنّ رياحاً إعلامية أخرى لا تُفرّق بينهما من حيث الخطوات أو السياسات المستمرّة وراء شعار»أميركا أوّلاً» وخصوصاً بعد انسحاب أميركا بايدن من أفغانستان والتي انتقدها العسكر على الملأ (29/10/2021).
يُنظّر لهذا الانسحاب وكأنه لم يحصل بهدف الإيحاء بملامح المستقبل الغامض الحافل بالحقائق والخيالات التي تصبّ قطعاً في إستراتيجيات التصدّي للصين.
وما نسف صفقة الغواصات الفرنسية لأستراليا التي هزّت العلاقات الفرنسية – الأميركية – البريطانية سوى القوطبة الأميركية لضرورة استبدالها بغواصات دفع نووي تصب في مستلزمات منعة التصدي الأسترالي للصين.
يمكن الانسحاب أيضاً نحو حكم ألمانيا موطن المقولة الثابتة في التفريق جذرياً بين العقلين الأميركي والألماني في اتّخاذ القرارات.
يبدو الألماني مطبوعاً بثقافة إقفال الأبواب والدراسة والتمحيص قبل اتّخاذ القرار.
تلك ثقافة خاصة فرزها التاريخ الألماني المحافظ وفي سريّته الذي دفع ألمانيا بعد هزيمتها في الحرب العالمية أن تُقفل أبوابها وتُفكّك أسباب هزيمتها ونتائجها للخروج بصورة صلبة مجدداً نحو العالم.
يأخذنا التفكير نحو احترام العقل الألماني المحافظ والسريّة العملانية.
نتذكّر الوساطة الألمانية بين إسرائيل وحزب الله وإدارة المفاوضات السرية بتبادل السجناء كمثال على التماهيات الكبرى بين مقاربات الأعداء التاريخيين.
بالمقابل، يفترق العقل الأميركي، في هذا المجال، في إدارة الأشياء حيث تظهر الأبواب والنوافذ المشرعة منها تتدفّق ملامح «العظمة» في الشكل ولو أنها تخفي في الخزائن إستراتيجيات كبرى.
يبرز نوع من التراجع والهبوط بل الاهتزاز في صورة الحكم القادم في ألمانيا، بعدما خرجت آنجيلا ميركل المعروفة شعبيّاً، بـ»الماما» و»المرأة الحديدية» بعد ستة عشر عاماً من سدّتها (26/10/2020) و30 عاماً في معترك حياتها السياسية الحافلة بأرقى الصور وأكثرها تواضعاً وصلابةً وزهواً وكأنها تذهب فتترك وراءها غموضاً إن لم نقل تراجعاً وفراغاً كثيفاً يصعب ملؤه بين أحزاب الاشتراكيين الديمقراطيين والمحافظين والخضر، ما قد يتطلّب ربّما إجراء مفاوضات مطولة لتشكيل الائتلاف الذي سيحكم البلاد بين حزب الاتحاد الديمقراطي
المسيحي والحزب الديمقراطي الاشتراكي وحزب الخضر، حتّى ولو أن ذلك فاقم من شلل الاتحاد الأوروبي حتى بدايات العام 2022.
تمكنت ميركل في العام 2008 من انتشال ألمانيا من أسوأ الأزمات الاقتصادية والمالية التي عرفها العالم في عقود، وأنقذت اليورو والمشروع الأوروبي برمته بعد الانهيار اليوناني، وكان لها الدور البارز في مجابهة «كورونا» وتداعياتها من كوارث الإغلاق.
تستحق ميركل، في ما نحن فيه من التحوّلات في خيارات الشعوب، أن نستقبلها أمام الزاوية الثالثة من المثّلث الذهبي في تاريخ قيادة ألمانيا العظيم التي بنى زاويتها الأولى مؤسس الإمبراطورية بسمارك وصانعها، ورفع زاويتها الثانية هلموت كول بتوحيد الألمانيتين بحيث اندفعت ميركل من فوق جدار برلين المتهالك في الـ1989، لتصبح زعيمة ألمانيا بعد وحدة الألمانيتين، كما في الاندفاع نحو بناء منظومة الوحدة الأوروبية التي لطالما وصمتها أميركا وما زالت تصمها بالشيخوخة والانهيار.
لن يفتقد الألمان ميركل إذاً، بقدر ما قد تفتقدها القارة الأوروبية في لحظات حرجة، ابتعادها عن أميركا واهتزاز حلف الأطلسي ليظهر إيمانويل ماكرون طامحاً لوراثة ميركل أوروبياً ليواجه أميركا الخارجة باهتماماتها من أوروبا ومن الشرق الأوسط وبلاد شمال إفريقيا. ويتطلّع بالطبع إلى قيادة القارة الأوروبية وفكفكة عقدها حيال أميركا، وكلّ ذلك مرهون بفوزه بولاية رئاسية ثانية في فرنسا في الانتخابات القادمة في نيسان المقبل.