كتاب ” عاللّبناني ” الذي صدر بالفرنسية تحت عنوان ” “tout a fait libanais [e] للدكتورة ” برت البيطار مخلوف “، لم تصنّفه الكاتبة كمؤَلَّفٍ ينتمي الى عِلم الألسنيّة، لأنّ الهدفَ منه ليس دراسة علميّة للّغة كمنظومة معقَّدة، بقَدرماينقل يوميّات شعبٍ بلغتِه، سلوكًا، وعلاقات، ومواقف، تُميّزُ كلّها مجتمعًا طريفًا، ومتأصّلًا، في آن، وبشكلٍ عفويّ، من دون اصطناع، أو تزويق.
اللّافت في الكتاب أنّ الدكتورة ” برت ” قد استقت محتوى نتاجها من بيئتها، بالخبرة، والاطّلاع، والملاحظة الدقيقة، والتّعاطي مع مكوّنات محيطها، والتي تركتها على السجيّة. وقد انخرطت في عمق المجتمع اللبناني الخام،بعادات ناسه، وقِيَمهم، وتعدّد مستوياتهم الثقافية والاقتصادية، وطريقة تفكيرهم، فكان كتابها مرآةً للبيئة، يجمع التّوصيف الى عِلم الاجتماع، من دون أن يغفل عن عِلم نفس السّلوك.
للوهلة الأولى، عند تصفّح الكتاب، يظنّ القارئ أنّه يتلقّى معلومات بأسلوب طريف، فالكاتبة تحشد، في صفحاتها، مجموعة من الكلمات والعبارات التي تدور على ألسنة النّاس في لبنان، يوميًّا، وتشكّل خاصيّةً لغوية يتمتّع بها هذا اللّبنان دون سواه. وعلى سبيل المِثال : ” كيفَك ؟، خُود، مَشّي حالَك، بَلا هالشّغلة، يا زَلَمي، رَكوة قَهوِة، تبّولة وفتّوش، ريِّس، شَهِّل، اسمالله، مهضومة، شَوب كتير…” وسواها من المفردات، والجُمَل، والحوارات المأخوذة من صميم لغة الجماعة، ولهجاتها المتنوّعة حسبَ الطّبقات والمناطق.
أمّا العابرُ الى تَراكُم المضمون القَيِّم، والذي لم يُحشَد شَقعًا،من رموزٍ ومعانٍ يستخدمها الأفراد متأثِّرين بما يدور حولهم، فإنه يقف على حقيقة السّلوك الجَمعيّ لشعبٍ متفاعل، منفتح، أكثرُه يُتقنُ لغاتٍ ثلاث، وإِن تبوّأتِ الفرديّة بعض سلوكه. وبالرّغم من أنّ هذا السّلوك يبدو فطريًّا، متوارَثًا في غالبيّته، لكنّ الدكتورة “برت” أكّدت على أنّ أصحابه يملكون طاقة إجتماعيّة تحرّكها روح المبادرة، ومخزون الإبداع، والمهارة في ابتكار ردّات الفِعل، لتشكّلَ هذه القدرات المعزَّزة بالتّحفيز، ما يمكن أن يُسَمّى الطّاقة الاجتماعيّة الخاصة باللبنانيّين، والتي تميّزهم من دون سواهم.
لم يكنْ بإمكان الدكتورة ” برت ” إتقان الولوج الى دائرة النّقل التّقريري، أي نقل الصّورة المباشرة لخصائص الناس، وبدقّة، لولا إفادتها من عِلم نفس السّلوك، فقد بدأت في الاطّلاع على ما يحدث في البيئة، وراقبت كيف يتفاعل الأشخاص مع الأحداث، وشاهدت كيف يستجيبون للظّروف المختلفة، واكتسبت، بالملاحظة، قياس النّمذجة بين الناس، والتي تستند الى الانتباه، والاحتفاظ بالمعلومات، وتنفيذ السّلوك، والتّقليد.
” عاللّبناني “، دخل الى نسيج المجتمع اللبناني، على اختلاف تقسيماته أو الطبقات والمراتب، والمكانة الاجتماعية والعِلمية، والمهنيّة، وحيازة الثّروة، في ما بينها. وقد أشارت صاحبة الكتاب الى الفروق في اللّغة، والسّلوك، والانفعال، واختلاف التراكيب بين جديّ ومُبتَذل، والى التّأكيد على إمكانيّة تحديد الطّبقة التي ينتمي إليها المتحدِّث، من خلال كلامه، بالإضافة الى شكله، ونَسَبه، وكفاءاته، استنادًا الى مجموع العوامل التي تقَولب كلّ طبقة.
الدكتورة ” برت البيطار مخلوف ” لم تُحجِم عن تزيين زمنِنا بلونٍ جديد، فسلوك اللبناني في لغته، أَنضَجُ ثمرةٍ في نتاجها، أحاطَتهُ بأَزينِ الأوصاف، بالرّغم من أنّ عينَها امتنعَت عن الغَمض في بعض تجاوزاته. وبكتابها ” باللّبناني “، انضمّت الدكتورة “برت” الى منتدى الأدييات اللّواتي حَمَلنَ لواء اللّبنانيّة، فكرةً، وقضيّة، وأضاءت، بابتكار جديد، وخِلافًا لِما درجت عليه الأقلام من حيث المحتوى والمرمى، على موضوعٍ جعلَها، عن حقّ، علامة فارقة في جعبةِ عِلم الاجتماع.