بدعوة من صالون الأثر الثقافي، عُقِدَ في المركز الثقافي _عاليه، جلسة مناقشة فلسفيّة لكتاب “فكرة الله الحقيقة والمعنى”، الصادر عن دار الفارابي، للأستاذ الدكتور وجيه قانصو.
بداية، رحّبت المنسّقة العامّة لصالون الأثر الثقافي الدكتورة ثروت دليقان، بالحضور واكّدت على أهميّة عقد مثل هذه اللقاءات التي من شأنها أن تغني الحياة الثقافية في وطن الثقافة لبنان. ترأس الجلسة الدكتور حسام نصَّار، ثم قدّم الدكتور جمال نعيم عرضًا موجزًا للكتاب ناقش فيه بعض عناوينه واجزائه، مؤكدًا أن كتاب “فكرة الله” غايته ليست اثبات وجود الله أو عدمه، إنما عرض أفهوم الله عبر التاريخ.
ثم تحدث مؤلف الكتاب الأستاذ الدكتور وجيه قانصو، فعرض كيف نشأت وتطورت فكرة الله، ومما جاء في عرضه: لا نستطيع الحديث عن الله بوصفه موضوعًا أو ذاتًا، بالمقابل هناك سؤال ورغبة داخل كل انسان أن يتعرّف على الله، والمسألة هي عندما تصل الفكرة إلى حدّ الاشباع والتوحش وعندما يصبح الله مادة للقمع والقتل، فينشأ صراع داخل الانسان بين الله مصدر النقاء ومثال الخير، وبين الذي نجده مادة سياسية ومادة استبداد وقمع وقتل.
ولفت قانصو إلى أن مؤلفه هو اختبار ذاتي، هو تجاوز لنظام حقيقة استقرّ، واصار معنى ثابت لفكرة ما، فباتت حقيقة لا تترك فسحة للتفكير فيها، بل فكرة محصنة بمغريات النعيم الابدي، أو ادوات ردع وعقاب والحكم بالردة والقتل غير الرحيم، هي فكرة يراد منها الطمأنينة واليقين وتوقف الزمن والتاريخ، وهو ما استلزم استكانة للعقل او اقالة طوعية منه، “فالعقل يقيل نفسه عندما يوفّر مقدمات الشريعة” كما قال الغزالي، ويصبح دور العقل الدفاع وحراسة هذه الحقيقة، والعمل بوصفه عقل متكلّم لا عقلا مستكشفًا، مؤطرًا باطار تاريخي خاص، فتتحول فكرة الله إلى سلطة، أو ايديولوجيا لترسيخ نمط فهم سائد، أي إلى مفهوم اجتماعي، حتى أن “دوركان” قال إن فكرة الله أصلها اجتماعي.
وشرح قانصو أن المشكلة في المفهوم الاجتماعي لفكرة الله هي إن المجتمع لا يرقى حينها إلى الفكرة المثالية المتعالية لله، بل يخفض الله إلى مستوى البشر، فتصبح كل جماعة تدافع عن إلاهها الذي اخترعته وسمته الله حصرًا، وهذا التحوّل إلى مفهوم اجتماعي يقتضي الولاء والانتماء لجماعة خاصة، فيحقق غرضه السياسي كمقولة ارهاب واكراه، وهذا المفهوم يتعرض باستمرار للتآكل والتجوّف من الداخل، لانه يفقد معناه ومضمونه وعمقه الوجودي، مع العلم ان السؤال الوجودي والبحث عن المعنى اقوى من مسألة الامن والطمأنينة، وهذا يفسّر لماذا ان فكرة الله لم تستقرّ على معنى عبر التاريخ في حين ان سؤال معنى الوجود يتدفق عبر العصور، وبالتالي فان التفكير بفكرة الله لم يتوقف كذلك، والايمان بالله لم يهدّىء من روع القلق الانساني.
وعرض قانصو للتناقض الحاصل بين المعنى الاجتماعي لله والمعنى الوجودي، الحرية الانسانية مقابل القدرة الالهية، اي الفعل الاخلاقي مقابل الارادة الالهية، حتى وصل الامر ببعض الفقهاء للقول انه ليس بالضرورة ان يكون فعل الله اخلاقيًا، ففصلوا بذلك الفعل الاخلاقي عن الفعل الالهي.
وبرأي قانصو ان هذا التناقض الاخير دفع للبحث عن ارضية تفكير مختلفة، تؤسس لفهم جديد لمعنى حقيقة الله، فخرج الوحي عن كونه مرجعا للفكر لصالح العلم، لكن الدين بقي بوصفه ضرورة لفهم العالم والمجتمعات، وبهذا اصبحت قواعد الرياضيات والقواعد العلمية والعقلية هي الادوات الفكرية المتبعة، والله هو من بديهيات العقل او ثمرة معطيات حسية، وانتقل الله من كونه غاية وحقيقة ايمانية، الى ان يكون حاجة وظيفية أوحقيقة فكرية تفصل بين المنطق والواقع، فاستحال اقامة اي دليل انطولوجي مؤسّس على فكرة الله، فالفكرة عن الله بوصفه كائنًا كاملًا لا متناهيًا اساسها منطقي، ولا يمكن اثباتها في وجود الله الواقعي كبديهة اولى، وكذلك ادى الى القول بقصور دليل التصميم عن اثبات وجود الله الكلي القدرة، كونه دليل استخلص من التشابك بين نشاط الانسان وفعل الله، ولا يثبت في احسن احواله سوى عن وجود مصمم ذكي استخدم المادة والقوة لتحقيق اغراضه، والمصمم لا يعني انه هو الله، مع العلم ان هذا المصمم الذكي يمكن ان يكون الله اللامتناهي، غير ان الانتقال من “المصمم” الى الله المطلق هو قفزة منطقية كبيرة في الفراغ، لذلك فان هذا النمط من التفكير اقفل باب اثبات وجود الله، والفلاسفة والمفكرين في القرن التاسع عشر اصبحوا يستخدمون مصطلح فكرة الله.
هذه النقلة النوعية كما وصفها الدكتور قانصو شرعت الاسئلة من كل حدب وصوب حول صفات الكمال الالهية، والتناقض بينها، من قبل تعارض الخيرية الكاملة مع قدرة الله نفسه، كمسألة وجود الشرّ، فإما الله لا يقدر ان ينزعه او لا يريد ان ينزعه. وبالتالي وقعت هذه الاشكالية، وكذلك علم الله بالمستقبل وقدرته على منعه، وبالتالي وقعت مشكلات منطقية لا حصر لها، تعارض حرية البشر وخياراتهم مع مسألة معرفة الله.
ويلفت قانصو، انه مع التفكير التاريخاني، وتفكك مسلمات الفيزياء التقليدية، وانفجار السؤال الوجودي في القرن العشرين حول معنى أن أنوجد إثر انفجار الحروب الكونية الكبرى، فقدت الرؤية التقليدية عن الله قيمتها في تفسير أحداث التاريخ ومظاهر الطبيعة. صارت فكرة الله، ككائن فائق يتدخل باستمرار في تسيير العالم ويعطي شواهد على اهتماماته الخيرة، فكرة منتهية الصلاحية وفاقدة الصلة باحتياجات الناس وتوترات وجودهم المعاصرة. أي انسحب الإله الخارق وإله الفراغات، الذي يتدخل بنحو إعجازي في الكون ليملأ هذه الفراغات، وباتت الشجاعة بالنسبة لكثيرين هي أن نعيش في العالم بلا إله فائق.
لذلك برأي قانصو، تجدد السؤال عن الله لا من زاوية تفسير العالم وفهمه وتقصي أسباب الاشياء ومصدرها وعللها النهائية، بل من زاوية الاسئلة القصوى التي يثيرها الوجود الإنساني ويعاني منها في ذراه الحرجة والقاسية وتنتظره عند كل منعطف وتلازم كل محطات وجوده وحالات احتكاكه بالعالم، مثل المحدودية والنقص والضعف والإحباط والقلق والموت. هي أسئلة لا تطالبني بمعرفة الله في ذاته، بل تحثني على استكناه حضوره في عمق كينونتي وحقل انوجادي. هو بحث عن الله وراء الله.
ويستنتج، انه لم يعد الجهد معنيًا بإثبات وجود كائن إلهي أو نفيه، بل ذهب إلى المنطقة المشتركة بين المؤمن والملحد معًا، والمتصلة بعمق ومعنى الوجود الإنساني نفسه، ومدى أصالة هذا الوجود وزيفه. أي العمق الذي لا يمكن لأحد أن يفر منه أو يخرج منه حتى لو تجاهله وأنكره وغفل عنه. ما يعني أن الله وراء أن تؤمن به أو تنكره، بل تجده كلما تيقظت لمعنى وجودك وأساسه ومنبعه، لا بالصيغة السببية، ولكن في ذرى الاهتمام وأقصى المعاني الحاضرة في حياتك. فصار ينظر إلى الألوهة مدخلًا للتحقق الوجودي للإنسان، ومدى مفتوحًا لانوجاده الممتليء ومعطى ضروريًا لاستنقاذه من عدمية اليأس والإحباط واللامعنى. فلا تعود العلاقة مع الله علاقة خالق ومخلوق أو سيد وعبد، أو علاقة آمر ومأمور، بل علاقة بين-ذاتية حية ومعيشة مع “الأنت” النهائي لتحصيل المعنى الاقصى للحياة. فالله ليس كائنًا ننكره أو نثبته، بل حضور لا يمكن للمؤمن والملحد الهروب منه، كونه يمثل العمق النهائي لحياة كل فرد، أي هو ضرورة أنطولوجية يتحسسها الفرد داخل ذاته حين يسأل نفسه من أنا. ليصبح سؤال الله وسؤال الأنا متطابقان بحسبب بولتمن، والحديث عن حضور الله واقعاً في قلب الوجود الإنساني وفي كل وضعياته، بخاصة في ذرى ازماته الوجودية من قلق وإحباط ويأس وعجز وألم وذنب وإخفاق وموت.
وعن علاقة الحرية بالوجود يؤكد قانصو، ان الحرية في ذروة تحققاتها تكون في التطلع نحو الوجود الاصيل، فإن التوجه نحو التعالي لا ينفصل عن الوعي بالحرية الإنسانية وممارستها. كون ممارسة الإنسان لهذه الحرية هو اتخاذ خيارات وجودية حرة داخل العالم. هذا يعني أن الله هو الحضور الدائم غير المشروط، الذي ينتظرنا عندما نقرر أن يكون لدينا الشجاعة لننوجد بحسب تيلليش. فلا يعود الله محتوى علمي أو معرفي أو حتى اعتقادي، بل خيار حر ألتقيه وأعيه بملء حضوري وحريتي. ما يجعل المسعى الحر لتحقيق وجودي الأصيل، هو عين استحضار وجود الله لأجلي، ويجعل نفيها، بتجاهلها أو الهروب منها ، نفياً لله أيضاً من وجودي.
وبهذا حسب السردية اعلاه، يخلص قانصو بمحتوى مؤلفه، الى ان الألوهة لا تعود حقيقة كائن ناءٍ عنا يأمر وينهى، بل ألوهة تنبثق من مسار العيش في العالم، تتحقق بنا ونتحقق بها، وتفرض علينا السكنى في العالم بعناية واهتمام، باحترام الأرض والترحيب بهبات السماء، والسكن بسلام مع الكائنات والاشياء. إنها وجهة للعيش بطريقة شِعرية وخَلاقة، يُخرج فيها الإنسان أبهى ما فيه وأروع ما في الوجود، مقابل وجهات عدمية متخمة برغبة الابتلاع والاستحواذ والإفناء والهروب والضغينة والارتكاس. ولأنها كذلك، فإن الألوهة، حياة قداسة لا تتوقف عن استقبال آلهةٍ جُدُد.
وفي نهاية اللقاء، قدّمت المنسّقة العامّة والقيمون على “صالون الأثر الثقافي” درعًا تقديريا للدكتور وجيه قانصو، لدوره الثقافي المتميّز على صعيد الوطن، متمنين له دوام التألق الفكري والعلمي.