بقلم الدكتور نسيم الخوري
لا يخرج هذا المقال نهائيّاً عن قيادتك لوزارة الأمن في لبنان تحاول جاهداً تطويع استحالاتها قطعاً. وأسأل بتواضعٍ جمّ باسم اللبنانيين : هل فعلاً هناك استحالة تجربة تطبيق قوانين السير بشكلٍ صارم إذ “لا بدّ للشعب أي شعب من أن يقتنع ثقافياً ووطنيّاً بضرورة احترام القانون بل تقديسه وإلاّ عبثاً تحميل المسؤول النتائج سلباً أو إيجاباً؟”. هذا ما قاله لي ضابط كبير. الشعب هو الذي يحقّق النظام. لم أقتنع… كليّاً.
لماذا هذا المقال الذي تصوّرته سينتهي كما البرق؟
لأنّه يكفي أي مواطنٍ النقر على غوغل:
“وزير الداخلية الحالي في لبنان”.
يأتيه الجواب بسرعة البرق: “بسّام مولوي القاضي ورئيس محكمة جنايات الشمال سابقاً وأرقام هواتف وزارة الداخلية المتعددة”. الإسم معروف ومحبّب ومقبول من الجميع وشهادات أصداقي المحامين وفيرة، بصرف النظر عن التشققات الرائجة الوعرة في المساحات السياسية والإدارية والقانونية في لبنان. يشغل الرجل منصب وزير الداخلية في حكومة رئيس الحكومة نجيب ميقاتي الثالثة منذ أيلول 2021. إلتقيته شخصيّاً لدى قسم اليمين أمام رئيس الجمهورية ثم عضواً في عداد الرئيس والزملاء المحترمين في “هيئة الإشراف على الإنتخابات البرلمانية”… وقدّمت له كتاباً لي بعنوان: “القيادة المستحيلة في الشرق الأوسط”. لا أظنّ أنّ تنظيم معضلات السير في لبنان مستحيلة!
لأنّك القائد الأعلى للأمن والأمان وإليك يتطلّع الناس وينتظرونك، وأغلب الظن أنّك لن تنام قبل الضبط المعقول والنهائي لسائقي السيّارات الطائرة فوق جادات لبنان وطرقاتهالمُحفّرة والمُهملة مهما كانت ظروف وطننا البائس.
هنا انتهى المقال منطقيّاً . لكن؟
لا…لا. كلنا يعاني من الحفر والحوادث المريعة عبر طرقات لبنان المسكونة ليل نهاراً بالسائقات وأُشدّد على السائقات أوّلاً والسائقين ثانياً وراكبي الدراجات النارية يتجاوزون سكّان لبنان يجوبون كلهم كما البرق وبسرعات تتجاوز صواريخ الجنوب وغزّة التي غزت الإنتباهات والعيون والعقول والمواقف بلا مبالغة. معظمهم يقود باليمنى والهواتف الخلوية تتلاعب باليسرى والأحاديث لا تنتهي ويقفز المارة كما الدجاج وكل من هو خارج منزله نزيل المستشفيات أو سريعاً نحو المقابر لا سمح الله.
الأهالي لا يعرفون طعم النوم في وطن القلق والموت حيال أجيالٍ فالتة بلا حساب أو قانون أو ضبط سير وأعداد القتلى والجرحى والمشوهين تتسابق إليها الأخبار وكأنها أخبار الطقس في “عصفورية” لبنان العظيم.
يمكن للمشاة أو عابري الجادات أن يستلّوا معيأصواتهموحبرهم يشهرونه بالطبع إذ ليس حوادث السير في لبنان قضاء وقدراً بل إهمالاً وتخلّفا وتخليّاً وحفراً وعدم انتظام صار يسمح بشهر دعاوى دولية ضدّها مع أنها دولة مجهولة الإقامة مع أنّها تفتك بأبنائها بإهمالها المتمادي على مختلف المستويات.
وإذا كانت السرعة الجنونية مخالفةللسير وجرماً مشهوداً، فإنّ إهمال لبنان لمواطنيه حيثما نظرت جرائم مشهودة. من سمح ويسمح، وبموجب أي قوانينوتنظيم أو تنسيق أو مراقبة أو اشارات تحذيرية للمارة تغطّي اليافطات الإعلانية الأوتوسترادات والطرقات وأسطح المباني باعلانات تُضاء بالطاقة يملكها مثلث التجار والصناعيين وكبار المسؤولينوالمقاولينبما يحجب الرؤية في الشوارع الغارقة بالعتمة والحفر والوحول والإهمال وقاطعي الطرقات؟
إننا في وطنالموت على الطرقات، أو في دولة تترك مواطنيها أسرىالفلتان العام 24/24 والأمر لا يرتبط هنا بالوزير مولوي بل بكلّ من يمسك قلماً رسميّاً يوقّع فيه على ورقة رسمية من دولة رئيس الوزراء إلى الوزراء وقوات حفظ الأمن والسير في لبنان الغريب العجيب.
نتذكّر عندما سقطت عربة رئيس الندوة اللبنانية الصديق ميشال أسمر رجمه الله ( 1914- 1984) في حفرة قُتل فيها اهتزّ لبنان السياسي والثقافي وقامت قيامة كبار مثقفي العرب وفرنسا ومفكريهم على هذا الحدث. للرجل في عنقنا دين إذ كان من الذين شجّعوني للهجرة نحو باريس لإتمام دراستي العليا هناك. كانت مغامرة هائلة وكنت مواظباً على أنشطة “الندوة اللبنانية” على السوديكو التي أسّسها عام 1946 بصفتها قاعة محاضرات وطنية راقية تقع بين ما سمي في ما بعد بالبيروتين ولطالما حاضر وتحاور وتجاور لفيف من النخب اللبنانية والعربية والعالمية في كلّ اسبوع من طراز تقي الدين الصلح وكمال جنبلاط وشارل مالك وأدونيس وناظم حكمت ورينيه حبشي وغيرهم كثر بما جعلها “دولة المفكرين والمثقفين” حتى ال1975 تاريخ نشوب الحروب الأهلية في لبنان. أين نحن اليوم؟ يا لذلّنا!
في باريس وبلدان الخليج والعالم، يؤدّي البوليس لدى أدنى مخالفة التحية للسائق المخالف ويسحب أوراقه ولو كان حفيد الرئيس أو إبن الوزير أو أي مواطن ذي شوارب سوداء.
ولاّك الله أيها الوزير المولوي واصطفاك في الموقع الأمني الأول والضروي بالنسبة لمعظم الناس .
لماذا لا تنتفض؟
ما أكتبه اليوم وأنشره دعوة شرف ملحة وطنية وإيمانية ودينية وسياسية تجمع اللبنانيين على اختلافاتهم وتفرقهم المصطنع، وكأنّه لم يعد في لبنان اليوم ما يذكّر بميشال أسمر إلاّ حوداث السير دون الحفر الفكرية والسياسية والطائفيةالتي تعبث بلبنانوبطرقاته المفلوحة مطبات للموت لتُعلن كلّ لحظة موت الدولة وغياب سلامة السير على طرقات لبنان.
لست بعيداً أيها السيّد الوزير مولوي بلياقتك وصيتك النظيف في القضاء، ولست بعيداً عمّا يبلعه الناس مع قتلاهم وأحزانهم ودموعهم وفقرهم إذ ينصتون وهم مغلوبون ومقهورون وداهمتهم الفاقة والعوز والخوف يتوقون لبذلة الدركي واسأل إلى جانبك في مجلس الوزراء الوزير الزميل الدكتور جورج كلاّس الذي لطالما يرفع صور والده الدركي رحمه الله رمزاً للمهابة والدولة التي ينتظرها الناس.
من لا يتذكر عبد الرحمن برو الظاهرة الفريدة في الإنضباط والمناقبية والشدة في ضبط السير؟ كان السير يمشي مثل ساعة بيغ بن ويا ويل المخالفين.
يتأهّب اللبنانيونسيّدي، ويمكثون وسيمكثون لياليهم في العتمة فوق الشرفات يصلّون بانتظار بناتهم وأبنائهم هذا الصيف وكلّ صيف ترقّباً لعودتهم سالمين الى اسرّتهم خوفاً من عصابات مجرمي قيادة الرانجات وما أكثرها والسيارات والفانات والشاحنات أو ربّما رعباً من خطفِ وتشبيحِ وتشليحِ والإعتداءات الجنسية!
انها لبقعة مجنونة فالتة كليّاّ ونرفع في وجهها محضر حبر نوقّعه وننشره حيال تلك العبثية الرهيبة واضعين كلّ ما نملك لتجليس الوضع.
وأخيراً،ماذا يتذكّر الناس؟
يتذكّرون وزيراً للداخلية ألزم الناس بوضع المطافيء في صناديق عرباتهم. صدئت المطافيء ولم تُستعمل.
ويتذكرون وزيراً أجبر اللبنانيين على ربط الأحزمة ومنع سير الدراجات النارية التي كان لا يمكن تصور أعدادها ثمّ فتح مراكز للمعاينات الإلزامية الميكانيكية التي يسألون عن مستقبلها اليوم مع أنّ الدراجات النارية تتجاوز عدد سكان لبنان.
ويتذكرون وزيراًأخفى لوحات ضبط السرعة في “الداون تاون”فقط لأنهلم يكن هناك كهرباء،
ويتذكّرون وزيراًاستبدل نمر أرقام سيارات اللبنانيين كلها تغييراً جذرياً تحقيقاً لما يسأل عنه وبتداوله الناس.
ويتذكّرون الوزيرة الأنثى بالحسنى…
باسم اللبنانيين كدت أوقّع المقال، وبتواضع جمّ إقرأ هذا النص معاليك لأن طاقاتك الإيجابية والوطنية تسبقك واخبر الجميع، إذ ما الحائل من ضرب يدك على طاولة مجلس الأمن المركزي أو مجلس الوزراء حيال هذه المعضلة بالذات لرصد العدد الكافي والوفيييير من قوى الأمن الداخلي ولو لصيفٍ تحتمسمّى: صيف بلا قتلى في الطرقات تأمر فيه حازماً كتجربة بضبط السير مهما كان الثمن وبحجز رخص السوق والسيارات المجنونة المسرعة وليُساق المخالفين الذين يزرعون الموت جيئة وذهاباً الى التوقيف حتى ولو كانوا من أبناء كبار الزعماء أو سائقيهم أومرافقيهم عبر عرباتهم السوداء وهم يطيرون فوق الحفرة التي صار للأسف إسمها لبنان؟
واقبل احترامي والمحبة