افتتحنا إذاعة الشرق في باريس في أول رمضان (حزيران) 1984، وكانت قد بثت مرتين من قبل وتعثرت لأسباب مختلفة، حتى جاء هذا التاريخ وانطلقنا، ولم تتوقف الإذاعة منذ ذلك اليوم. وكنا قد اخترنا عن قصد هذا التاريخ المعبّر، وقرأت أنا المسيحي المشارك في تأسيسها بيان الديوان الملكي السعودي برؤية هلال رمضان وبداية الصوم، إذ كنا نأمل دعم المملكة في هذا المشروع.
كنا شابين، رغيد الشماع وأنا، ولا نملك الكثير من الامكانات، وكان عدد أفراد الفريق في البداية ستة اشخاص بمن فيهم السكرتيرة والمسؤول عن التقنيات. وعلى رغم أننا كنا أسمينا الاذاعة “إذاعة الشرق، إذاعة الجالية العربية والاسلامية في باريس”، فلم يكن من بين الستة إلا مسلم واحد، كما لم يكن من بين هؤلاء من هو مؤهّل للجلوس وراء الميكروفون والتحدث بلغة عربية صحيحة سوى كاتب هذه السطور، فاضطررت إلى ملء الوقت ببرامج يومية ابتكرتها، وكنت أقدمها مساء كل يوم بعد نهاية عملي في مجلة المستقبل ما عدا السبت، هذا عدا فوازير رمضان التي ابتليت بتقديمها من دون استعداد، والبرامج الأخرى التي كنت اشرف على تنسيقها مثل برنامج ” أنت تسأل والإسلام يجيب” الذي كان يقدمه مجاناً شيخ تونسي، وبرنامج “محامي المستمعين” الذي قدمته محامية تونسية أيضاً، ومجاناً.
كنت اترك عملي في مجلة “المستقبل” وفيما بعد في مجلة “ياسمين ” واذهب بسرعة إلى الإذاعة التي لم يكن مركزها بعيدا كي أبدأ برنامجي المسائي.
وجاء عيد الفطر وكان لا بد من نقل شعائر صلاة العيد على الهواء من مسجد باريس الكبير. ولم يكن من سبيل إلا إن أقوم بنفسي بهذه المهمة التي رافقني فيها كفنّي على أجهزة الإرسال الزميل الصديق طوني تامر. اشتريت قبل العيد بأيام كتابا عن الأحاديث النبوية وآخر مخصصاً للأدعية، ونقلتُ على بطاقات أقوالا وأحاديث نبوية وعبارات وأدعية كي استخدمها على الهواء قبل النقل المباشر بانتظار بدء الشعائر، كما تفعل الإذاعات العربية.
دخلنا الى المسجد الكبير بعد نزع أحذيتنا وجلسنا ــــ بحكم مهمتنا ــــ قريباّ من الشيخ المرحوم عباس بن الشيخ الحسين عميد المعهد الاسلامي وإمام المسجد. انتهت صلاة العيد وقام الجميع الى صالة الاحتفالات الكبرى لتبادل التهاني وتناول الحلويات، وانهمكنا نحن، طوني وأنا، بجمع الأجهزة وتوضيبها، وكنا آخر من غادر المسجد، ثم هممنا بالتوجه نحو قاعة الاحتفالات لكن طوني لم يجد حذاءه بل وجد حذاء آخر. قلت له: انتعله موقتا وتعال ندخل إلى القاعة لعل أحدا انتعل حذاءك خطأً. دخلنا فأخذ يجول بنظره على أرجل عشرات الجالسين والواقفين وإذا به يقول لي بعد دقائق: “نبال، يا لها من مشكلة، حذائي ينتعله الشيخ عباس نفسه! كيف سأتصرف؟ لا بد أن أعود إلى الإذاعة فوراً”. طمأنت طوني على حذائه ثم أعلمت رابح سكرتير الشيخ بالأمر فذهب وأسرّ في أذن الشيخ بالمشكلة، فضحك الشيخ طويلاً رحمه الله ونادى على طوني معتذراً وتبادلا الأحذية أمام الناس المستغربين والمتبسّمين.
كان الشيخ يستمع إلى الإذاعة يوميا، وكان يتصل بي أحيانا وأتصل به لبعض الاستشارات، وبدا لي أنه يحترمني كثيراً. فقلت في نفسي إنني يجب أن أفاتحه بحقيقة الأمر، وبأنني مسيحي لكن لا يضيرني في شيء تقديم خدمة لإخواني العرب والمسلمين هنا في بلاد الغربة، ولا يزعجني هذا في أيماني المسيحي بشيء.
فذهبت اليه في أحد الأيام ورافقتني الزميلة المرحومة هدى الزين حيث كانت تريد ان تطلب منه مقابلة لمجلة “اليمامة” التي كانت تراسلها من باريس في ذلك الوقت. وصلنا الى المسجد الكبير وكانت قاعة الانتظار لمقابلة الشيخ تعج بالناس وطالبي الموعد. فقلت لمدير مكتبه اننا سنعود في وقت آخر، فطلب مني الانتظار لحظات ليبلغ الشيخ. ثم عاد بعدها ودعانا للدخول. أُحرجت أمام تلك الجموع التي كانت تنتظر لقاء الشيخ، كيف نأتي وندخل قبل الجميع! ظننت يومها أن تقدير الشيخ لي دفعه الى ذلك. استقبلنا الشيخ عباس بحرارة. وبعد السلام والكلام قلت له: يا شيخ، جئت اليك كي أبوح لك بسرّ لا أريد إخفاءه عنك طويلاً. إن ما أقوم به عبر الإذاعة هو محاولة تقديم خدمة للعرب المهاجرين مسلمين ومسيحيين لا فرق عندي، لكن يجب ان تعرف أنني مسيحي و… ولم يدعني الشيخ أكمل إذ قال لي : ” يا الأخ نبال، ( هكذا ينادي الجزائريون) نحن نعرف أنك مسيحي، وأود أن أقول لك إن ما تقدّمه أنت المسيحي للمسلمين يوازي ما يقدّمه مليون مسلم”. فانتعش قلبي وفرحت فرحاً عظيماً بهذه الشهادة وبروح هذا الشيخ الرائعة وعرفانه بالعمل الصالح من أي جهة أو طائفة أتى. كم نفتقده هذه الأيام في بلادنا.
لم تمض أسابيع حتى عدت إلى الشيخ عباس، رأس الهرم الإسلامي في فرنسا، أسأله كيف نتصرّف في الإذاعة تجاه كل تلك الأغاني التي تتضمن عبارات الخمر والكأس والقبلة وغيرها وهي كثيرة العدد، وذكرت له بعض الأمثلة كأغنية عبد الوهاب “الدنيا سيجارة وكاس” وأغنية “الأطلال” لأم كلثوم التي تقول فيها “هل رأى الحب سكارى مثلنا” الخ؟ هل نتابع في إذاعتها أم نتوقف؟ فأجابني من دون تردد: ” إذهب وذع كل هذه الأغاني، وإذا اشتكى أحد قل له إن الشيخ عباس موافق أو دعه يتصل بي”. ثم أضاف: ” تراثنا العربي الاسلامي الطويل مليء بكل هذه العبارات شعراً ونثراً، فهل نتنكّر لتراثنا؟ وهذه الأغاني تعبّر عن حياة الشعوب العربية ـــ الاسلامية، فهل نتنكّر لحياة شعوبنا ؟”
كان، رحمه الله، مثال المسلم الوسطي المنفتح المسامح، مع أن أيمانه كان أقوى من الصخر.
ترقبوا مقالا للإعلامي الدكتور نبال موسى كل يوم اثنين