بقلم الدكتور نبال موسى
يكثر الحديث يومياً في لبنان، ومنذ أشهر طويلة، على مرفأ بيروت بسبب الكارثة الفاجعة التي هزته كما هزّت العالم أجمع وأودت كما نعرف بعشرات الضحايا ومئات الجرحى وهدّمت وخرّبت آلاف المنازل والمكاتب والمتاجر…
ليست كارثة المرفأ موضوع “ذكرى” اليوم، إنما موضوعها حكاية غريبة تتعلّق به وبشيء من تاريخه وتسببت لي بندم شديد لأن شيئاً نادراً وثميناً ضاع من بين يديّ.
كنت في الثمانينات من القرن الماضي مدعواً إلى حفل استقبال أقامته إحدى السفارات العربية في باريس بمناسبة العيد الوطني لبلادها. في ذلك الوقت، كانت مثل هذه الحفلات، وبفضل الطفرة النفطية و”الانفتاح” على الصفقات مع الدول العربية، تضم معظم أفراد الطبقة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإعلامية والدبلوماسية والعسكرية وغيرهم من الشخصيات المختلفة. في ذلك الحفل، صودف أن التقيت أمام طاولة من طاولات “البوفيه” العامرة بالأطباق العربية والأجنبية، برجل طويل القامة أنيق المظهر سألني عن محتوى أحد الأطباق، فشرحت له، ثم دار بيننا حديث مجاملة وعرّفني بنفسه فقال إنه عضو في مجلس الشيوخ الفرنسي وذكر لي اسمه الذي نسيته للأسف، لكنني أذكر أنه من عائلة “نبيلة” لأن اسم عائلته يبدأ ب “دو”. وسألني أثناء الحديث عن البلد الذي جئت منه فقلت لبنان. فأخبرني أن والده كان مهندساً وعمل في إنشاء مرفأ بيروت، وأنه ورث منه فيلماً عن “حفل افتتاح المرفأ الجديد” في العام 1902 إن لم تخنني الذاكرة. وبما أنني أهوى كثيراً مثل هذه الوثائق التاريخية، فقد أبديت دهشتي وإعجابي الشديدين، فسألني إن كنت أرغب في الحصول على نسخة من الفيلم، فأجبت بنعم أكيدة، فوعدني بتحقيق ذلك وطلب عنواني ورقم هاتفي، وافترقنا وتابع كلٌ منا طريقه الشاق في مثل هذه الاحتفالات نحو أطباق الحلوى أو صحون الشاورما…
وبالفعل، بعد حوالي عشرة أيام، وصلتني بالبريد علبة فيها نسخة من الفيلم، فاحتفظت بها في مكان آمن بانتظار أن تتاح لي الفرصة لشراء آلة عرض صغيرة. لكن، مع زحمة العمل وندرة أوقات الفراغ حيث كنت في ذلك الوقت أعمل في مجلة “المستقبل” في النهار قبل أن أذهب مساء إلى “إذاعة الشرق” التي كانت في بداياتها والتي كنت أسستها مع الزميل رغيد الشماع وأُشرف على إدارة برامجها وتقديم برنامجي المسائي اليومي…
المهم، مرت الأسابيع تلو الأسابيع بانتظار شراء الآلة المذكورة حتى قررنا، زوجتي وأنا” تغيير ديكور جدران الصالون والمكتب وكان لا بد من إفراغهما من بعض الحاجيات لإفساح المجال للعمال، فاضطررنا إلى إنزال بعض صناديق الكرتون إلى “الكاف” وكان من ضمنها صندوق يحتوي على علبة الفيلم. ولم يمض يومان حتى خُلع باب “الكاف” وسُرِق كل ما فيها وضاع فيلم افتتاح مرفأ بيروت الذي لم أشاهده. ولا أدري اليوم إن كانت “الدولة اللبنانية” تملك هذه الوثيقة، مع أنني أشك، لأن آلات تصوير الأفلام لم تكن متوفرة في ذلك الوقت على الأرجح عند اللبنانيين، كما أن إمكانية عمل نسخة من الفيلم المذكور للبنان لم تكن متوفّرة هي أيضاً.
وقد رجعت إلى بعض المصادر التاريخية فوجدت أن الباب العالي التركي طبعاً منح في حزيران عام 1887 “امتياز إنشاء المرفأ” لشركة فرنسية ممثلة “بيوسف أفندي المطران”. وفي سنة 1889 بدأت الأعمال الإنشائية لكن ببطء، واستمرّت على بطئها حتى العام 1893 حيث تغيّرت وتيرة العمل ليتم إنجاز المشروع وافتتاحه أمام حركة الملاحة في العام التالي 1894. وقد تمت بعد ذلك توسعة المرفأ بشكل ملحوظ في العام 1902 وتم تصوير الافتتاح في الفيلم الذي سُرق.
خسارة هذه الوثيقة!
ترقبوا مقالا للإعلامي الدكتور نبال موسى كل يوم اثنين