بقلم الدكتور نبال موسى
في أحد أيام منتصف الثمانينات اتفقت مع فادي الصافي الابن الأكبر للفنان العظيم وديع الصافي رحمه الله على إجراء مقابلة فنية مع والده في إذاعة الشرق من باريس التي كنت أقدم فيها بعض البرامج، وتمنى عليّ فادي ان لا تجري المقابلة على الهواء كما جرت العادة في برنامجي نجم على الهواء بل أن نسجلها في منزل المطرب حيث يملك فادي كل الأجهزة اللازمة، فوافقت.
ذهبت في الموعد المحدد الى العنوان الذي لم أكن أعرفه واكتشفت ان المنزل يقع في الطابق الرابع والأربعين من البناية الشهيرة ذات ال 48 طابقاً في منطقة الديفانس والمعروفة باسم ” ديفانس 2000″.
طلبت المصعد وتوكلت على الله لأنني لا احب البنايات المرتفعة ولا أجرؤ على النظر الى الأرض من ارتفاعات كبيرة لأن قلبي يهبط الى جواربي كما يقول المثل الفرنسي. طرقت الباب فاستقبلني الأستاذ وديع نفسه أجمل استقبال بابتسامته الحلوة التي لم تفارق وجهه طوال الوقت، وجلسنا نتبادل الحديث، ثم اتجه فادي الى احدى الغرف لتحضير أجهزة التسجيل.
سألني الاستاذ وديع: ماذا تفضّل؟ قهوة؟ بيرة؟ عصير؟ فشكرته قائلا لا شيء. فأصر، فشكرته ثانية لأنني فعلا لم أكن بحاجة لشيء وأود الاستفادة من الوقت للحديث معه. فقال: آه…عندي شيء ربما لا تعرفه، أريد أن تتذوّقه. قلت: خير، ما هو؟ أجاب: شاي التفاح، أنا أشرب منه دائما وهو لذيذ ومفيد، هل تعرفه؟ قلت: شاي التفاح؟ لا، فأجاب : إذن سأسقيك شاي التفاح فوافت، وهل كان بإمكاني أن أرفض؟ فعندما ترى طيبة وصدق هذا الرجل باديين في بريق عينيه، وابتسامته العريضة لا بد من أن توافق، وقلت له: الآن عرفت سر صوتك الرائع! وضحكنا، ثم قام رحمه الله وحضّر بنفسه شاي التفاح، وكان بالفعل لذيذاً.
فرغنا من تناول الشاي فنادانا فادي ودخلنا الى مكتب كي نبدأ التسجيل. وفجأة هبّت الريح، وعلى هذا العلو الشاهق في الطابق 44 أخذ الشباك يصدر صفيراً بسبب تسرّب الريح من شقوقه الضيقة، فاحترنا في الأمر ثم أجرينا تجربة ظهر فيها أن هذا الصفير سيكون مسموعاً بوضوح. لكن فادي وجد أخيراً الحل إذ فتح الشباك قليلاً فاختفى الصفير وبدأنا التسجيل.
لا بد ان أعترف بأنني لم أكن من عشاق وديع الصافي ولا نصري شمس الدين أوحليم الرومي …. كنت أفضّل أغاني الطرب عند محمد عبد الوهاب وأم كلثوم وغيرهما، مع أن لوديع عددا من الاغاني التي تطرب.
لم أكن قد سمعت وديع شخصيا من قبل. لكن، وبعد أن بدأنا الحديث عن مسيرته الفنية، وبعدما سألته عن أولى اغنياته ثم طلبت منه لو يذكرنا بها غناءً، تأبط عوده، وما ان بدأ يغني حتى تغيّر في نفسي كل شيء عن وديع. وقلت في سرّي: سبحان الله! من أين يأتي هذا الصوت العظيم! فالمدهش هو الفارق الذي لاحظته بين صوته وهو يتكلم وصوته وهو يغني.
كانت مقابلة رائعة، سألته خلالها عن كل شيء من الماضي إلى الحاضر، وأجاب عن كل الاسئلة برحابة صدر استثنائية، وغنى الكثير من أغانيه على عوده الجميل. شكرته على حسن الضيافة وشاي التفاح وعلى هذه المقابلة الغنية، وأعطاني فادي الشريط الذي أذيع بعد أيام ثم استعاده للاحتفاظ بمقابلة والده على ان ينسخ لي نسخة تذكارية أحتفظ بها أنا. ومنذ ذلك اليوم لم أر فادي، لكن ابتسامة وديع لا تفارق عينيّ.
محمد رشدي والهروب من الشرطي!
ومن ذكريات العمل الإذاعي أنه بعد مقابلتي مع الفنان الكبير محمد رشدي بحضور الفنان التونسي محسن رايس، أصطحبنا الفنان محمد في نزهة نحو ساحة التوكاديرو وبرج أيفل. شربنا القهوة في أحد مقاهي التوكاديرو اللطيفة وخرجنا نحو البرج فشاهد محمد رشدي شرطياً بقرب الرصيف بثياب جميلة مزركشة، وأظن ان فرنسا كانت تحتفل في ذلك اليوم بعيد أو بمناسبة وطنية، فسألني إن كان يمكنه التقاط صورة معه. كان لا بد من التحايل على الشرطي فقلت له إن الرجل الذي معي هو أهم فنان في العالم العربي وهو ضيف وزارة الثقافة الفرنسية ويعشق فرنسا، وهو يأمل في التقاط صورة معك للذكرى. بعد هذا الكلام المعسول والكاذب وافق الشرطي فأخذت لمحمد صورة معه وشكرناه وهممنا بالتوجه نحو برج أيفل وإذا بشرطي آخر بدا لنا أنه رئيس الأول كان قد رأى المشهد من بعيد وركض نحونا يوبّخ الشرطي على فعلته بينما هربنا نحن الثلاثة بعيدا خوفا من ان يحجز آلة التصوير وتضيع أمنية محمد، لا بل يضيع معها الفيلم كله. ولم نفهم سبب التوبيخ، لعل التقاط الصور مع رجال الشرطة ممنوع؟! كم كنت أود نشر هذه الصورة الموجودة عندي بين آلاف الصور التي آليت على نفسي تنظيمها وتبويبها بعد خروجي على التقاعد، لكن هيهات… فالبحث عنها سيتطلب ساعات وساعات بين آلاف الصور!
نجاح سلام تعارك محمد سلمان
قابلت المطربة نجاح سلام مرتين، مرة لوحدها ومرة مع زوجها السابق الفنان محمد سلمان. لم أعد أذكر ما جاء في المقابلة ولا أرغب في الاستماع الى الشريط كي أنقل منه، فقد آليت على نفسي كتابة ما بقي في الذاكرة فقط مع أن أشياء كثيرة قد تكون موجودة على الشريط وتهم القراء.
أذكر أنني سالتها عن السبب في أن الناس ما زالت تردد وتغني أغنيتيها القديمتين جداً ” حوّل يا غنّام” و “يا جارحة قلبي”، ففهمَت بشكل غير مباشر أن أغانيها الجديدة لا يغنيها أحد وقالت لي مع شيء من الانزعاج: دعنا من هذه الأغاني القديمة، يجب الاهتمام بالجديد … ولم أعلّق، ولولا احترام الضيف لكنت أود أن اقول لها إن هاتين الاغنيتين من أهم ما غنّته إضافة الى قصيدة نهج البردة التي ليست لها اصلاً.
أما في المرة الثانية فقد سيطر محمد سلمان على الجلسة وكان يأخذ الكلام حتى عندما لم يكن موجهاً اليه لدرجة انها اضطرت الى ان تقول له بغضب خارج الميكروفون أثناء بث إحدى الاغاني: “اتركني أحكي يا محمد” ! ثم دُهشت في المقابلة نفسها عندما رأيتها “تضربه” على فخذه من تحت الطاولة لأنه استمر في السيطرة على مجريات الحديث…
مها صبري: قدك المياس !
أما ما أذكره عن مقابلتي مع الفنانة مها صبري فهو أنها فاجأتني عندما وصلت إلى الستوديو بالحجم الهائل الذي كانت عليه لدرجة انها بالكاد استطاعت التحرك في الستوديو الصغير الذي كنا نسجل فيه، وضحكت من حجمه الذي لم يكن يزيد على 10 أمتار مربّعة، لكنها كانت تجهل ان الاذاعة في ذلك الوقت لم تكن تملك المال، لدرجة أننا كنا نسميها ” إذاعة الجيعانين” قبل أن أغادرها كما يغادر المدعو إلى الفرح من غير حمّص كما يقول المصريون، وقبل أن يشتريها المرحوم رفيق الحريري، ولهذه القضية قصة أخرى.