عندما تشكَّلَ وَعيُ الإنسان، وبدأَ يبحثُ عن ذاتِهِ، وعن معنى وجودِهِ الكيانيّ، برزَت، عندَه، مسألةُ أفضليّتِهِ على سائرِ مصنوعاتِ الخالِق، أو تفوُّقِهِ على جميعِ المخلوقات، وحامَ حولَها الجَدَلُ للتوصّلِ الى أسبابِها. وقد اعتبرَ الإنسانُ أنّه مُيِّزَ بخاصيّةِ الفِكرِ الذي جعلُهُ قادراً على فَهمِ ما يدورُ حولَه، وعلى مواجهةِ المشكلاتِ، أيّاً تَكُنْ، وإيجادِ حلولٍ لها تناسبُهُ. ولأنهُ تمتَّعَ بالعقل، ذلك ما مهَّدَ الطّريقَ الى صياغةِ القِيَمِ أو المبادئِ الأخلاقيّةِ التي تَصونُ كرامتَهُ الإنسانيّة، وتساعدُهُ على الخروجِ من غريزيّتِهِ لينأى عن تداعياتِها الحيوانيّة، كما أشارَ الى ذلك ” جان جاك روسّو “.
إنّ القِيَمَ هي الثّورةُ المعرفيّةُ التي أحدثَت نوعاً من القطيعةِ مع انتماءِ الإنسانِ التّقليديِّ الى مملكةِ الحيوان، وإِنْ كان أَذكاها، وشكّلَت الأساسَ المحوريَّ، أو العلامةَ الفارقةَ في الدَّورِ التّنويريِّ الذي يقودُ الفردَ والمجتمعَ الى الأفضلِ، والأرقى. ولمّا كان الإنسانُ كائناً اجتماعيّاً، بطَبعِهِ، “لا يستطيعُ أن يبقى منفصِلاً عن الآخرين” كما يقول ” أوغسطينوس “، باتَ مُضطَرّاً الى استخدامِ نُظُمِ التّواصلِ للتّعبيرِ عن الذّات، وللمشاركةِ مع مجموعاتٍ متنوّعةٍ، تَعاوُناً وتَنافُساً، وقد أدّى هذا التَّفاعلُ الى ظهورِ معاييرَ أخلاقيّةٍ، وقِيَمٍ اجتماعيّةٍ، شكّلَت، عمليّاً، أُسسَ التّعاطي المُجتمعيّ، وإطارَ العلاقاتِ بين النّاس. وهذا، بالذّات، جعلَ القِيَمَ حاجةً مُلزِمةً وضروريّة.
هناكَ مَنِ اعتبرَ أنّ القِيَمَ وضعَتِ الإنسانَ في أقفاصِ عبوديّةٍ جديدة، وقيّدَته بَحَزم، وسلبَت حريّتَهُ، وأخضعَتهُ لسلطتِها، بِما أنّها قوانينُ ضابِطةٌ لسلوكِهِ، وقد اعْتُبِرَ هذا الأمرُ أزمةً من جانبِ بعضِ المفكِّرين السوسيولوجيّين، من مِثل ” ألان تورين “. وفي المقابل، هناكَ مَنْ رأى أنّ القِيَمَ بَعَثَتِ التّفاؤلَ بمستقبلٍ إنسانيٍّ واعِد، كونَها أداةً تدعو الى الإنضباط، والتعقُّل، والمنطق، إنقاذاً من الصِّراعاتِ والشّرورِ والإضطهاداتِ والسِّباقِ الى السّيطرةِ بالقهر. وبالرَّغمِ من هذا التّناقضِ في المواقفِ، تبقى القِيَمُ من أهمِّ أساسيّاتِ الحياةِ الإنسانيّة، إِنْ لم نَقُلْ أَهَمَّها، لأنها تَمدُّ هذه الحياةَ بكرامتِها، من هنا، هي نِعمةٌ لا يمكنُ الإنفصالُ عنها، حتى لا ينحدرَ الإنسانُ الى دَركِ الأَهواءِ، والشّهوات، والسلوكيّاتِ الخاطئةِ والشرّيرة…فيفقد أغلى ما لديه، الكرامة.
إنّ القِيَمَ هي الصِّلةُ بينَ اللهِ والإنسان، وبها، وحدَها، يمكنُ وَضعُ هذا الإنسانِ في مرتبتِهِ الإنسانيّةِ واللّاهوتيّة، ورَفعُ قدسيّةِ كيانِهِ بعيداً عن معاييرِ النّفعيّةِ، والماديّةِ، وقانونِ القوّة. إنّ أهميّةَ القِيَمِ، في تَناميها، وتَنويرِها، هي في إظهارِ حَجمِ حضورِ الإنسانِ الإيجابيّ في مجالاتِ الحياةِ المختلفة، وفي رسمِ صورةٍ ساميةٍ له، في علاقتِهِ مع ذاتِهِ، ومع الآخر، ومع الخالِق. من هنا، لا يمكنُ الفَصلُ بين القِيَمِ كثقافة، وبين قيمةِ الشّخصِ في بُعدِهِ الرّوحيّ، لأنّ القِيَمَ تحتلُّ الصّدارةَ في بناءِ الإنسان، بالتّربية، والتّثقيف، والتّعليم، والتّوعية، وتقودُهُ الى أن يتبيّنَ، بها، أنّ حقيقتَهُ جميلةٌ وصالحة.
قيلَ إنّ عصرنةَ المجتمعِ، تؤدّي، بشكلٍ من الأشكال، الى إحداثِ أضرارٍ بالقِيَم، وتعاليمِها، والإلتزامِ بها، لا سيّما إذا كانَ التّحديثُ سريعاً، ومكَثَّفاً، يُفرَضُ على الإنسانِ لمُجاراتِهِ، والتكيّفِ معه، من دونِ أن تكونَ لديهِ القدرةُ والوقتُ لدراسةِ معطياتِهِ، واتّخاذِ الموقفِ المُناسبِ منه، قَبولاً، أو رَفضاً، أو تعديلاً. مهما يكن من أمر، فالحياةُ وَجهتُها أماميّة، والإرتقاءُ الحضاريُّ إلزاميٌّ وحاصل، بشرط أن يكونَ إِرساءُ قِيَمٍ جديدةٍ في علاقةِ الأفرادِ والشّعوب، يتماشى مع ما تَقَدَّمَ من قِيَمٍ، من قَبل، ويتطابقُ مع مَدارِ النُّظُمِ التي تنتمي، هذه، اليه.
إنّ القِيَمَ، بمفهومِ علم النّفس الحديث، هي المحورُ الكيانيُّ للإنسان، أو كاملُ وجودِهِ الشّخصي، حيثُ تتلاقى خيوطُ هذا الكيان، من ضميرٍ ووجدانٍ ونوايا وقرارات… لذلك، اعتُبِرَت القِيَمُ جوهرَ النّفس، تصونُ حرمتَها، وتنزِّهُها عن كلِّ نزوة، وكأنّها تُقيمُ حاجزاً بينَها وبينَ الإنحراف، والآثامِ، والأرجاس، من هنا، اعتُبِرَ حضورُ القِيَمِ في النّفسِ حضوراً خلاصيّاً. أو كما يقولُ البابا بنديكتوس : ” إنّنا في سورِ سجنٍ كثيفٍ مُظلِم، ونحنُ بحاجةٍ الى ثِقبٍ في السّورِ، هو القِيَم، لنشهدَ أنّ هناكَ شمساً “.