بقلم الدكتور نبال موسى
كما سبق أن ذكرت، حصلت على عقد أستاذ متفرغ للتدريس في الجامعة اللبنانية في ايلول 1974، وشاءت الصدف ان عدداً من الأساتذة في كلية التربية، ومن بينهم شقيقي، كانوا يتدارسون فكرة إنشاء، رابطة ثقافية لأساتذة الكلية. وقد دعانى شقيقي للاجتماع معهم في أحد الأيام وكانوا جميعهم إما أساتذة فيزياء أو رياضيات أو لغة فرنسية أو تاريخ… وكانوا عند ذلك الاجتماع قد شكلوا الهيئة التي ستتولى إدارة الرابطة، ووجدوا فيّ كمتخصص في اللغة العربية وآدابها ضالتهم، فطلبوا مني أن أكون أمين سر الرابطة، فوافقت.
أعددنا صياغة المشروع وأهدافه، وركزنا على أن الهدف الرئيسي هو القيام بنشاطات ثقافية وترفيهية، وقدمنا كل الأوراق اللازمة لإدارة الجامعة. وانتظرنا والسعادة تغمرنا حيث أننا سنكون أول كلية في الجامعة اللبنانية تنشئ إطارا من هذا النوع للأساتذة يساهم في تغذية حياتهم الفكرية ويقرّب بينهم. واخترنا اسم الرابطة وشعارها وهو زهرة “لا بانسيه”.
وطال الانتظار على رغم عدد من المراجعات التي كانت تنتهي كلها بأن الموضوع “قيد الدرس”. وأخيرا، وبعد مداخلات معقّدة قيل لنا إن الطلب وصل إلى القصر الجمهوري وهو متوقّف فيه، فاستغربنا لوصوله إلى هناك لأن الجامعة اللبنانية إدارة مستقلّة.
وفي احد الأيام، علِمنا، شقيقي وأنا، أن صديقتنا وجارتنا السابقة في طرابلس أنطوانيت القارح التي تعمل في القصر الجمهوري عند الرئيس سليمان فرنجيه أجرت عملية الزائدة الدودية، وهي في المستشفى القريب من منزلنا في الحازمية. فذهبنا لزيارتها والاطمئنان عليها. وتشاء الصدف أن نلتقي في غرفتها بالضابط المرافق لرئيس الجمهورية ناصر الرهبان، وهو مثلها من زغرتا بلدة الرئيس، وقد جاء للاطمئنان أيضا.
تبادلنا الحديث بمودة. فوالد زوجة ناصر كان في الدرك وعمل مع والدي الذي كان في الدرك أيضاً، وهناك صداقة بين العائلتين، وناصر الرهبان يعرف هذا. ولذلك، خطر في بالي أن أحدثه بموضوع طلب إنشاء الرابطة وسبب توقفه الطويل في القصر الجمهوري، وما إذا كان يمكنه القيام بشيء… وما إن أنهيت كلامي حتى اكفهرت أساريره وقال لي بلهجة حاسمة: ” أنت واحد منهم؟ نعم الطلب موجود في القصر، لكن الرئيس أقسم أنه لو اضطر الأمر فسيقفل الجامعة كلها ولن يسمح بإنشاء نقابة للشيوعيين….”
ضحكت بملء فمي لان أيا من الأساتذة أعضاء الهيئة لم يكن لا شيوعيا ولا حتى يسارياً، لكن علمت فيما بعد أن الرئيس فرنجية كان يرى في أي تجمع لأساتذة جامعيين أو غير جامعيين، حتى لو كان ثقافياً، خطراً على النظام. حاولت إفهام الضابط المذكور أن الرابطة لا تعني نقابة، فهذه شيء وتلك شيء آخر، وأن الهدف ثقافي محض، وان لا علاقة لها لا بالسياسة ولا بالنقابات… ولكن، لا حياة لمن تنادي.
وهكذا دُفن المشروع في أدراج ــــ أو زبالة ـــ القصر الجمهوري،ــ وبعد أسابيع قليلة اندلعت الحرب الأهلية الطاحنة التي أطاحت، هي، بالنظام الذي كان الرئيس فرنجية يخشى الإطاحة به من قبل رابطة ثقافية للأساتذة الجامعيين!
هل كانت خطوتنا سابقة لأوانها يا ترى ؟ لا ادري. اليوم أصبح للأساتذة نقابة بكل معنى الكلمة تفرض نفسها بقوة على الحياة السياسية والاجتماعية في لبنان. لكنها، كما كل شيء في هذا البلد، غارقة للأسف في السياسة والطائفية والمحسوبية.
يا الله! متى سيبزغ علينا بصيص نور يخلّصنا من هذا الظلام الداكن؟