بقلم الدكتور نبال موسى
كما انني لم اكن احلم يوما بأن ألتقي مثلا محمد عبد الوهاب ووديع الصافي وبليغ حمدي وودة الجزائرية وغيرهم وأجري معهم مقابلات إذاعية، كذلك لم أكن أحلم يوماً بأنني سالتقي وزير إعلام الزعيم جمال عبد الناصر الأستاذ محمد فائق، وأضع يدي في اليد التي كانت تصافح فقيد العروبة والعرب، وأتناول معه وحدي العشاء، وأطرح عليه عشرات الأسئلة التي كانت تدور في رأسي منذ عهد الشباب وأيام دراستي في جامعة القاهرة.
فقد دعاني في أواخر العام 2000 صديقي الدكتور مهدي شحادة مدير مركز الدراسات العربية في باريس في ذلك الوقت ورئيس تحرير مجلة “الملف” التي كان يصدرها المركز الذي اسسه الدكتور السعودي صالح بكر الطيار، دعاني لألقي مداخلة عن حقوق الانسان في الاعلام العربي ضمن مؤتمر كبير نظمه المركز في جنيف ودعا اليه عدداً من الشخصيات السياسية والديبلوماسية والفكرية والثقافية، ومن بينهم السيد محمد فائق الذي كان في ذلك الوقت ــــ ولا أدري إن كان لا يزال ــــ رئيساً للمنظمة العربية لحقوق الانسان.
مساء وصولي إلى فندق الأنتركونتيننتال في جنيف، وكانت الوفود تصل من مختلف أنحاء العالم، اضطر الصديق مهدي ومعه مسؤولو المركز للذهاب إلى المطار لاستقبال أحد كبار الضيوف السعوديين وأظنه كان رئيس المنظمة الاسلامية للعلوم والثقافة أو رئيس رابطة العالم الإسلامي، لم أعد أذكر، وقال لي أنهم سيعودون بعد حوالي الساعة، وسنذهب بعدها مع عدد من الضيوف للعشاء في مطعم سويسري مشهور.
بعد حوالي ثلاثة أرباع الساعة اتصل بي الدكتور مهدي قائلا ان طائرة الضيف المنتظر متأخرة 40 دقيقة، ومع ما ستستغرقه العودة الى الفندق سيكون الوقت قد اصبح متأخراً وسيفوت وقت العشاء في المطعم المذكور، ورجاني الاهتمام بضيف عزيز هو محمد فائق. قلت: محمد فائق نفسه وزير إعلام عبد الناصر؟ قال: هو نفسه، أرجوك أن تهتم به ولا تتركه وحده.
نزلت فوراً الى صالون الفندق فوجدت السيد محمد فائق وسلّمت عليه، وبعد بعض المجاملات أخبرته بموضوع التأخير وعرضت عليه ان نتناول طعام العشاء في مطعم الفندق بدل الانتظار حتى ساعة متأخرة من الليل، فوافق برحابة صدر. وما ان وقفنا لنتوجه نحو المطعم حتى رأينا الرئيس الجزائري الأسبق أحمد بن بللا يدخل الى الفندق فيشاهد محمد فائق ويهرع للسلام عليه بحرارة ويتبادلان المجاملات قبل أن يتركنا ويتجه الى غرفته.
جلسنا وحيدين على الطاولة ورحت أنا المعجب بالزعيم عبد الناصر أتخيّل ماضي هذا الرجل الذي كنت أراه وأنا في بداية العشرينات من عمري بشكل شبه يومي على شاشة التليفزيون الى جانب الزعيم، واخذ يمر في خيالي شريط صوره مع عبد الناصر في مواقف كثيرة عايشتها أثناء السنوات الدراسية الأربع التي قضيتها في جامعة القاهرة.
بعد أكثر من 30 عاما كانت تلك الصور لا تزال في المخيّلة ولا تزال المشاهد حية وكأنها حدثت بالأمس، وخصوصا ذلك المشهد الذي لن أنساه يوم تنحى الرئيس عبد الناصر تاركا الحكم لزميله زكريا محيي الدين فنزلت الملايين إلى الشوارع رافضة تنحّيه، وجاء محمد فائق الى إحدى الساحات العامة ليلقي خطابا في هذه الجموع الهائلة فظنوا أنه زكريا محيي الدين لأن هناك بعض الشبه بينهما وخصوصا في الصلعة وكادوا يفتكون به.
تحدثنا في أمور كثيرة، وسألته عن أشياء كثيرة خاصة وعامة لا مجال لذكرها هنا، وكان يجيب في هدوء ملحوظ وبدقة واضحة وبسعة صدر. وسألته طبعا السؤال التاريخي: هل تعتقد أن الرئيس عبد الناصر مات مسموماً كما يشاع بعد ان بث السم في جسمه مدلّكه الدكتور العطيفي؟ فنفى ذلك مؤكدا أن الرئيس مات بذبحة قلبية إثر الإجهاد الكبير الذي عانى منه خلال أيام مؤتمر القمة المشؤوم والسيّء الذكر. لم ينم أكثر من ساعة واحدة خلال أربعة أيام من المفاوضات الشاقة، وكان يعاني من السكري.
لم أكن أعلم يومها بالشائعة الأخرى التي ألمح اليها محمد حسنين هيكل والتي تدّعي أن أنور السادات الذي كان مجتمعا مع الرئيس والملك حسين في فندق الهيلتون لحل بعض المشاكل الصعبة، قال لعبد الناصر عندما غضب على الملك حسين: أنا سأعمل لك فنجان قهوة بيدي تروّق به أعصابك، ووضع به السم. والله أعلم.
فشكراً للطائرة المتأخرة التي سمحت لي بهذا العشاء اللطيف والاستفرادي.