قبل أن أبدا بكتابة بعض الذكريات التي تعود إلى فترة عملي في مجلتي “المستقبل”وأختها “ياسمين” اللتين صدرتا في باريس، الأولى بداية عام 1977 وكنت فيها واحدا من ثلاثة سكرتيري التحرير والثانية عام 1983 وكنت فيها رئيساً للتحرير واللتين قضيت فيهما عشر سنوات من شبابي، لا بد لي من كلمة عن ناشرهاتين المجلتين الأستاذ نبيل خوري رحمه الله. وسأتحدث حصراً عن نبيل خوري كرب عمل وكإنسان كما خبرته أنا وليس كما رآه غيري ربما، ولن أتحدث هنا لا عن سياسة المجلة ولا عن مصادر تمويلها، فلهذا وذاك موضوع آخر.
كان نبيل خوري إنسانا لطيفاً مهذباً لبقاً وأريحياً. يعامل الصغير والكبير بكل احترام. وكان كريما ومسامحاً إلى حد كبير، يعفو عن الكثير من الهنات التي يقع فيها هذا أو ذاك، ويغض الطرف حتى عن بعض التجاوزات الصغيرة وأحيانا الكبيرة، لدرجة أنه أرخى الحبل لأكثر من زميل “فتح على حسابه”مستغلاً موقعه في “المستقبل”.”
لم يغضب يوما تجاه أحد من الزملاء أو يوجه إليه كلمة نابية أو جارحة، على عكس ما شهدناه وسمعناه عن كثيرين من أصحاب الصحف والمجلات. كان مثلا يتصل بي هاتفياً قائلاً: “نبال ممكن شوفك شوي؟ بدي عذّبك بهذا الخبر أو بهذه المهمة.”
ذهبت يوماً مع زميلي رغيد الشماع إلى السعودية وقابلنا وزير الإعلام يومذاك علي الشاعر لطلب الدعم لإذاعة الشرق التي كنا أطلقناها قبل أسابيع من دون أن أستأذن رب عملي ، وزاد في الطين بلة أننا تأخرنا على الطائرة فاضطررت إلى الغياب عن العمل. وعدت، ولم أسمع كلمة واحدة منه عن هذا الأمر، ولم أدرك حساسية الموضوع إلا بعد أن نبّهني إليه أحد الزملاء المخضرمين.
جئت إلى المستقبل صباح أحد الأيام وأنا متقوّس الظهر من ألم شديد أصابني. وصدف أنه كان يمر في البهو عند خروجي من المصعد ورآني على هذا الشكل فصرخ بي: لماذا جئت؟ عد إلى المنزل حالاً أواذهب إلى أحد المدلّكين. لم أفعل بالطبع، فرب عمل كنبيل خوري يستحق أن تتحمل

الملك سلمان عندما كان أميراً للرياض ونبيل خوري في مكاتب “المستقبل” في باريس ويبدو إلى اليسار الزميل ابراهيم الخوري مدير التوزيع.
الألم من أجل العمل معه.
عندما رُزقت بابنتي الأولى أمتلأت غرفة المستشفى بباقات الزهور والورود المرسلة باسم نبيل خوري شخصياً وباسم إدارة المؤسسة حتى اضطرت الممرضات لوضع بعضها في الممر خارج الغرفة.
وذات صباح، وصل إلى المجلة زميلنا الكبير المؤرخ يوسف ابراهيم يزبك، ولاحظنا أنه يعاني من مشكلة صحية، فطلب نبيل خوري نقله فوراً إلى مستشفى الجامعة الأميركية. أخذته في سيارتي إلى المستشفى الذي طلب شيكا بعشرة آلاف فرنك قبل إدخاله. أتصلت بالأستاذ، وبعد اقل من ربع ساعة كان الشيك حاضراً.
لم يخصم نبيل خوري قرشاً واحداً من راتب أحد غاب يوما أو يومين، ولم يكن يسأل عما إذا كان الغائب مريضاً فعلا أو متمارضاً، معه شهادة طبيب أم لا. أحداث كثيرة حصلت كان يمكنه على أثرها طرد هذا أو ذاك من العمل، لكنه لم يفعل.
لم يطلب مني يوماً أن أحرّف خبراً أو أزوّر تحقيقاً. كنا جميعاً نعرف موقف المجلة السياسي ومصادر مساعداتها وكنا نراعي ذلك لا غير.
والأهم من كل هذا وذاك موقف فريد من نوعه وهو أن نبيل خوري سمح لنا أنا وزميلي أنطوان عبد المسيح الذي كنت أتقاسم معه المكتب بنشر جريدة حائط في مكتبنا كنا نضمّنها أحياناً كثيرة نقداً لاذعاً جداً للمستقبل نفسها ولكتّابها ولغيرهم ولم نسمع منه أية كلمة ولا أية ملاحظة، وأعتقد أنه الوحيد في العالم العربي الذي اتسع صدره لمثل ذلك.

الأستاذ يغنّي ليلة زواجي ويبدو الأستاذ طلال سلمان و”صلعة” الزميل المرحوم ياسر عبد ربه.
طبعاً، لم يكن نبيل خوري منزّهاً عن الأخطاء والهفوات. الخطأ الكبير في نظري الذي ارتكبه هو تسليم الإدارة إلى ولده المتخرج حديثا من الجامعة والقليل الخبرة، وصاحب أسلوب حياة اتسم بالبذخ والاستهتار، فبدأت معه مسيرة الانحدار التي لم تطل.
ولسخرية القدر، أنه بعد أن عملت أنا في المجلة التي أسسها نبيل خوري، عمل هو بعد إقفال “المستقبل”كمستشار في إذاعة الشرق التي ساهمت في تأسيسها!
هذه لمحة قصيرة لعلها لا تعطي صورة كاملة عن نبيل خوري كرب عمل، لكنني كتبت جزءاً مما خبرته أنا وليس غيري. فالكتابة عن نبيل خوري وعن “المستقبل”، التي كانت أهم مجلة سياسية في العالم العربي من بداية السبعينات حتى نهاية الثمانينات يحتاج إلى كتاب كبير.
في العاشر من حزيران عام 2000، أثناء نزوله من الطائرة في بيروت، أصيب بوعكة صحية أدّت إلى غيبوبة تامة استمرت أكثر من سنة قبل أن يفارق الحياة. وقيل لي إن صديقه الأمير سلمان بن عبد العزيز أمير الرياض في ذلك الوقت سافر إلى بيروت في تلك السنة وأصرّ على زيارته في المستشفى وهو في غيبوبته، وبكى عندما رآه على تلك الحال وهو الذي كان ينبض حياة وبهجة.