نظّم مركز دراسات الأقليات في الشرق الأوسط في جامعة الروح القدس – الكسليك طاولة حوار حول “الزرادشتيّة بين الحكمة النورانيّة وظلال العيش”، شارك فيها كلّ من السيّدة أوات حسام الدين طيّب، والسيّدة نرمين حسين رمضان، والسيّد جمال سليمان محمد، الذين أتوا من كردستان، العراق. وقد سلّطوا الضوء على دور هذه الأقلّية وتقاليدها وعاداتها ومفاهيمها على أكثر من صعيد…
استُهلّ اللقاء بكلمة ترحيب ألقتها الآنسة ماري نويل خطار ثم ألقى الأب البرفسور يوحنا عقيقي، نائب رئيس جامعة الروح القدس ومدير مركز دراسات الأقلّيات في الشرق الأوسط كلمة الترحيب وقال: “فكرٌ صالح، كلامٌ صالح وعملٌ صالح”، ثلاث تلخّص عقيدة زرادشت الخلاصيّة في عمليّة تناغم تامّ بين الفكر والكلمة والعمل. تناغم في الصلاح وفي عمل الخير، والهدف تمهيد الطريق واسعًا أمام أخلاقيّة روحيّة سوف تفرض ذاتها على كلّ ممارسة دينيّة لاحقة. الفكر خلّاق مبدع، الوسيلة كلمة أزليّة فاعلة ليس عملها سوى امتدادًا عكسيًّا لتصرّف عقلانيّ مستنير بغيته الخير فيما يعمل لأنّه روحيّ وعقلانيّ”.
وأضاف: “يبقى الفكر فكرًا صوريًّا بعيد المنال والادراك إنْ لم يتجسّد في كلمة ومنها في فعل، أي على يد عاقل آمن بثالوثيّة الحركة فتموضع كلاميًّا وفكريًّا ليكون ابن النّور الأزليّ، ميثرائيًّا (نسبة إلى ميترا) يشهد له بالقول والفعل. لذا يعمل الحكيم على طيّ صفحة تَأرْجُحِ القرار أمام ثُنائيّة القوى والخيارات العليا (سبانتا منيو – أنغرا منيو) فيحزم أمره منحازًا للحكمة المخلّصة التي تعبر به أخيرًا جسر الحسم النهائيّ، شينڤات، نحو “بيت الأغاني” حيث سوف يلتقيه ربّ الأنوار أهورا مزدا بعينه، متخطّيًا خطر الوقوع في شباك سيّد الشرور وعمل السيّئات التي تقوده حتمًا نحو “بيت الدروج” أو الجحيم القاتمة”.
وتابع: “أمام هذه المشهديّة المصيريّة ذات الصبغة الدينيّة الأخلاقيّة التي تحجّم الإنسان، والتي وجدت صداها في فلسفة السقراطيّين لتبقى وتستمرّ، انتفض نيتشه وواجه نبيّ الأخلاق في كلّ ما بناه من صروح أخلاقيّة مع هرميّاتها القيميّة والفضائليّة الخاصّة بها، وقصد عرين وحدته حيث أمْضى 10 سنوات في العزلة التامّة هو والشمس التي كانت تزوره كلّ يوم برفقة نسره سيّد السماء والحيّة سيّدة الأعماق”.
وأردف: “أمّا وإذا كان الجدل مع الفلاسفة ممكنًا حتى الإقناع بالتغيير فالانقلاب على سيطرة الدخيل عليها، والنهوض بها من كبوة انحطاط، فهو غير سهل مع رجال الدّين حيث الجدل وشوشات أهريمانيّة (شرّيرة هدّامة) بينما الطاعة والخضوع فقيم حكميّة نورانيّة بنّاءة. لذا عاد نيتشه بالنبيّ إلى بدايات تنوّره ووعيه لمكنونات قلبه والوجود وجعله يعترف بمصالحة الحكمتين النورانيّة والترابيّة وتركه يهنأ برهة لمشاهدته الحيّة تعانق النّسر كصديقين ورفيقي طريق واحد، يعبر جسرًا واحدًا إلى المعرفة الخلاصيّة، إنّه قلب الإنسان حيث ملتقى الجسد والروح، خفق إراديّ حياتيّ وتحرّريّ بامتياز”.
وقال: “هنا وعلى هذه الصفحات من “هكذا تكلّم زرادشت” كانت لي الفرصة الأولى لملاقاة النبيّ والتعرّف عليه حتى الاعجاب والتقدير. فنيتشه، وإنْ أجبر النبيّ على دحْض ما علّمه ليهدم هياكل قيم قديمة ويبني أخرى جديدة، فهو لم يقلّل من أهميّة ما فعله زرادشت منذ آلاف السنين. وقد كان بحاجة إليه فكرًا وقولًا وعملًا ليشيد قلاع فلسفته الجديدة ويمتّن عمليّة التفوّق الإنسانيّ الذي بشّر به”.
وأضاف: “كجواب على تساؤلاتنا منذ ألفي سنة ونيّف حول شخصيّة المجوس وماهيّـتهم ولماذا قدموا للسجود لطفل بيت لحم، فلم يعد يكفينا نجم يبشّر ويدلّ، فزرادشت هو السابق الآخر، الذي أتى ليبشّر بمجيئ الساوشيانت Saoshyant المخلّص، مولودًا من عذراء، حاملًا لواء الحرب ضدّ الشرّير ومعلنًا التغيير الكبير ونهاية العالم”.
وختم الأب عقيقي: “إنّي إذ أرحّب بالأصدقاء والأخوة القادمين من كردستان العراق، ليقدّموا لنا طرحًا وجيزًا ولكن أصيلًا وأوّليّا لهويّتهم الدينيّة والعرقيّة والعقائديّة والثقافيّة، يسرّني أن أقول: بعد المسيح يسوع الذي أتى وشعّ بنوره في المعمورة قاطبة، انطفأت أنوار النجوم وما عادت تكفي لتدلّنا إلى مخلّص آخر، فشمسه هي التي تقود مسيرتنا الروحيّة سنةً بعد سنة حول شخصه الإلهيّ. وكلّ الشعوب التي عرفتْ بمجيئه وساهمتْ في التعرّف إليه، هي أيضًا خاصّته؛ وإرثها الروحيّ والدينيّ والإنسانيّ يبقى ويستمرّ على ضوء نور جديد عساه يشعّ في شرقنا ويكشح ظلمات الشرّ الهدّام ويبني مدائن الخير والسلام لشعوبنا المنكوبة في بعدها عنه”.
حسام الدين طيب
ثم تحدثت ممثلة الزرادشتيين في وزارة الأوقاف والشؤون الدينية في حكومة كردستان العراق، أوات حسام الدين طيّب عن الديانة الزرادشتية ومراحلها التاريخيّة والظروف الحاليّة للزرادشتيّين في إقليم كردستان. وأشارت إلى أنه “تعتبر الزرادشتيّة من أولى الديانات التوحيديّة وهي دين الحق الصالح. يعبد الزرادشتيون إلهًا واحدًا، أهورا، وهو الخير تمامًا ولا ينبع منه الشر، هو كلّي العلم وكلّي الوجود. هو خالق العالم الماديّ والروحاني ورزاقه. وإنّ أفضل عمل في الدين الزرادشتي هو القيام بالأعمال الصالحة…
ولفتت إلى “أنّ الدين الزرادشتي وفلسفته مبنيّان على المبادئ الأخلاقيّة الثلاثة: الأفكار الجيّدة والكلمة الطيّبة والأفعال الصالحة. وإنّ الاحترام والسلطة على قدم مساواة بين الإناث والذكور سواء في حريّة التعبير والقيادة الدينيّة والإداريّة في المجتمع والدولة. إنّ الحركة الزرادشتيّة في إقليم كردستان هي حركة دينيّة مستقلّة لا ترتبط بأيّ جهة سياسيّة ولا تتلقى أيّ تمويل من أيّ جهة. هدفها تعريف المجتمع الكردستاني على تراث الديانة الزرادشتيّة وتقاليدها. لكن وبالرغم من القوانين الداعية إلى حماية حقوق الأقّليات، إلا أنّ التعايش السلمي ليس متكاملاً والأقلّيات لا تتمتّع بجميع حقوقها الوطنيّة وفي كلّ المجالات مثل الأحوال الشخصيّة والحقوق المدنيّة…”
حسين رمضان
وفي الختام تناولت نرمين حسين رمضان موضوع: “المرأة والعادات والتقاليد الزردشتية ومكانة المرأة في الديانة والفلسفة الزردشتية. ولفتت بداية إلى أنه جرى تشويه الحقائق التاريخية عن هذه الديانة، مؤكدة أن الزرادشتيّين في كردستان يعتمدون فقط على كتاب “الكاثا” ويؤمنون أنّه كلام الوحي الإلهيّ لزرادشت النبي. ثم تحدثت عن الزواج والعائلة مشيرة إلى “أنّ ديانتهم تشجع على الزواج من أجل محاربة الرذيلة، والمحبة هي الأساس في الزواج. وهناك مساواة بين الرجل والمرأة في الحياة الزوجية”. وتحدثت عن المرأة في البيت والمجتمع. ثم تطرقت إلى الفنون، لافتة إلى “أن غالبيّة الكرد منذ 2500 سنة قبل مجيء الإسلام كانوا زرادشتيين، لذلك لا يزال للتراث الزرادشتي جذور في العادات والتقاليد الكردية، كالأعياد وقدسية النار وحريّة الملبس والشعر والأدب …