مَن شاقَه الوطنُ العميق، انعَتقَ من حَمَلةِ الظّلمة في دروب المصابيح، مُتطَلِّعاً الى وَثبةٍ طليعيّة لمجتمعٍ يرزحُ تحت أعباء الغُبار. إنّ جِلدَ لبنان الذي جايَل الزَّمن، جَمُدَ فيه الزَّمن، فحقدَ فيه الفِكرُ على ضَياع الحقيقة، وانتظر طَفرةً واعِدة تمنّى لها الوصول.
هي ميّ المرّالصرخةُ التي ربَّما لم يُمَهَّد لها في قابليّة وِلدِ البَلَد، لكنّها كَتَبَت فَرقاً تَرَدَّد كثيراً في مَطابع الألسِنة، ولو بإرهاق. كانَت كلمةً تَشَوَّق إليها مَن شاءَ أن يجدَ كثيراً، وأن يتهادى بين المعرفة والمعرفة، ويضيعَ في وارفٍ حيث لا أصباغ أو تَكَلُّف أو تَعَمُّل. هي كلمةٌ تتمكّنُ الأجيال من الإحتفاظ بها لتنقلَها من كائنٍ الى كائن، فتُرَكَّبُ إعلاماتٍ تُحقِّقُ وظيفة التذَكّر للعودة الى الأُصول، كما يتذكَّرُ الدَّم العَودةَ الى القلب بعدَ تَنقُّلِه في الشَّرايين والأَوردة.
ميّ المرّ ناثِرةٌ مُبدِعة بِقَدر ما هي شاعرةٌ مُرهَفة، فما يَجمع بين نثرها وشعرها ليس الصّناعة أو القَوالب، بل النَّقاءُ الطَّافحُ من روحها، والحالةُ المُؤثِّرةُ في وحدتها الشُّعورية، على تشَعُّبها ورحابتها. إنّ روحَ ميّ كانت دائمةَ التَوَثّب الى البَوح، وكأنها تتبادلُ أحاسيسَها مع ذاتها، بصفاءٍ موصوف، وفي ذلك عَودٌ الى أعماق “الأنا”، لتفتيق أغوارها وأشواطها. من هنا، وأنتَ تقرأ ميّ، تنسابُ رقَّتُها من تحت أناملك، وتستميلك الى ذلك الإنعتاق من الأَبعاد، لتَصلَ بك الى أرجاء الأمنيات، حيثُ لا جَلَبة ولا انتهاء، بل إيماءةٌ تعانقُ الحياةَ وتدعو للتَّشابكِ معها.ولعلّ ذلك مردُّه الى تلك المواكبة بين الرَّمز والّلغة، فالإشارةُ مع ميّ لا تتجزَّأ، وخاصِّيَتها لا تحتاج الى تفسير، وكأنّ التَّنسيقَ في أشكال تعابيرها تُمثِّل ما قاله “ألبير دوكروك” من أنّ الكلمات في وقتٍ ما، لا تستدعي إلاّ كلماتٍ تستطيعُ الدّخولَ معها في سَلاسِل.
ميّ المرّ اكتمل سِفرُ تكوين لبنان معها، فهو عِرقٌ نورانيّ يَطولُ مَدُّه في خِصبِ الزَّمن. وهو الصَّوتُ الذي يتمادى معه الإصغاء، والفرحُ الذي على غيرِ رَعشة، والوجعُ الذي لا يتلوّى على أنين. لقد كان للبنان في كيان ميّ المرّ اهتزاز، وتأمّلٌ ذاهبٌ الى الإِدراك، ومجدٌ مُتَخَفٍّ وراء حجاب، وموهبةٌ خافَت أن تَضيعَ بعد أن تلمع، فالبَرقُ بعد الإِدهاش أَشلاء. من هنا، دخلَت ميّ في عمليّة خَلقٍ وتَكوين، وكأنّها تُعيدُ أعجوبةَ تَجسيدٍباقٍ في شكلٍ يَعصى على العتم. فلبنان معها ليسَ كلمة بل عَظَمتُها، وهو إمتاعُ الحقّ وانشراحُ البساطةورخاءُ الجَمال. إنّه كالسِّحرِ الذي يُخيِّم على الجوّ الشِّعري،فتشعرُ به وأنتَ تُنشِده.إنّ عشقَها الوطنَ كانصِباب الشَّلال من عَلُ، يُعطيكَ فوقَ ما تَطلُب، فهل للعِشقِ مسافات؟
لقد اطمأَنّ الشِّعرُ الى وَزنه مع مي المرّ، هذه التي طافَ أسلوبها في مَعابرِ الإبداع، يسبكُ التَّصاويرَ بريشةٍ طَلِيَّة كأنّها مندوبةُ النّور والَّلون. لذلك، فإننا نلمحُ في سطورها وَمضاً غيرَ مألوف، يخترقُ الآفاق، وفَيضاً من الخَواطر على فُجاءَة، يخطفُ منّا البَصَر فلا نستردُّ رَجعةَ عَين. لقد كشفَ شِعرُهاحِجابَه، فلم يكن صَريعَ زفرات التَّكرار، مَغصوبَ الإنفتاح على الحداثة، فريشتُها لم تكن مُمزَّقةًبصنيعٍ فنيّ مألوف لأنها ترافقت والتَّجديدَفصادقَتها مفاتنُه، وكان لها معه مقامٌ مرموق. لقد حمل شِعرُها زهرَ النَّوازع الإنسانية وشَوكَها، بأسلوبٍ على غير غُموض، يوقظُ عَصَبَ الصّورة التي تُمَشهِدُ للحياة. وقد أَشفَعت ميّ شِعرَها برَنّاتٍ من قلبها نادِرة، تَحوكُ الأحاسيسَ بخَيطِ النَّبض، موحِيَةً بأنّ مصابيحَ الحبّ لا تُضاءُ إلاّ بِزَيتِ الجفون.
الحبُّ مع مي موجود، وإثباتُ حُدوثه هَيِّنٌ كإثبات عُطر البَراعم. وهو ليس نزوةً مُتفاوِتةَ الحِدَّة، بل فضيلةٌ تجعلُ غُربة القلب عودةً الى مَسقط الرأس. الحبّ معها عدمُ اكتفاءٍ من ملامسة نَشوة البال، إنّه وقفةٌ أنيقة في أوجِ السَّوامق من المَشاعر، وهو الهَزأَةُ من الأرواح التي تخشى التَّحليق، والتي لمّا تزلْ تُصدِّقُ أنّه ” لم يكن هناكَ حبّ “.من دعائم الحبّ مع ميّ أنّ الحبَّ كان بِمستواها، جِذعاً مَشدوداً الى أرض، وإلفاً للصِّدق، وتَفَتُّحَ قلبٍ قولاً وحياة. وهو ليس فردوساً مفقوداً، إنّه همسةُ وردةٍ لا تَهدأ، ومناجاةُ البَشاشة للفَراش، وأسئلةٌ تنضحُ عن اللَّهفةِ وأجوبتُها ليست طلاسم.لقد حملت ميّ الحبّ الى سُفَرِ القلوب، مرَّةً مُتعةً ومرَّةً شكوى، وأنشَبَت معه نزاعاتٍ فالتَهَمَ مُعتنِقوه أَطباق القلق، وحتى النَّسائمُ سألَت: ” لماذا الورود ؟”. لكنّها في النهاية مارسَت مع الحبّ شيئاً من السِّحر، فكان انتصارٌ للطُّهر على الإعدام.
المجتمعُ في تآليف مي المرّ ومحاضراتها، لم يكن أَسْراً ضيِّقاً لقوالبَ مَفروضة، إنّه الأَلصقُ برغبات الترقّي، هذا الذي بابُه مَشَرَّعٌ فلا تَحَجُّر ولا انطواء، بل تَطَلُّعٌ صوبَ الأَرحب حضارةً ونمُوّاً ونُهوضاً. إنّ مشكلة المجتمع في لبنان لم تقتبسْها مي بل حفظَت مُعجمَها، وانتقلت فيها من مَقطع الى مَقطع، وكان لها في مُقاربتها فُصولٌ لا التباسَ في صدقيّتها. لقد تصدَّت لقضايا المجتمع والوطن، وحملت هذه الرّقاع المُستَضعَفة بجرأةٍ على أَعواد الهُموم، جُرحاً بالِغَ النَّزف لم يُضَمِّدهُ وَعدٌ ولا حساب. وكان همُّ ميّ، ليس الدَلَّ على مكامن المرض فحسب، بل إيقاظ النَّزعة الى القِيَم التي صانَ بها مجتمعنا نفسَه، والتي اغتلناها فعَمِلنا بذلك على تَدمير ذواتنا. من هنا، لم تَخزنْ ميّ لسانَها عن الإشارةِ الى الزلاّت والعَورات، وعن التَّحذير من المَضيِّ في آفاتِ الفساد والإفساد والتلوُّثِ الخُلقي، لإيقاظ البصائر من غفلاتها، كي تتمَّ المُصالحةُ بين القِيَم والحياة.
لعلَّ بُعدَ النَّظر هو ما أَسَّس الإطارَ السياسيّ في مواقف مي المرّ. فالحقبة التي تعرَّفت الى عقل مي النَيِّر، جمعَت بين الثّروة والثَّورة، ولم يكن بديهياً التَّغاضي عن الحالَين. فلبنان ما قبل الحرب هو “معبدُ الزمُرُّد “، لم يَعِش نهضةً بل حملَ مشعلَها، وأطلَّ على حضارات النَّاس ومشى بها أشواطاً بعيدة. وكان له اليدُ الطّولى في العَدوى التي أصابت محيطَه، في الآداب والفنون والعلوم، فكانت البهجةُ المشرقيّة الحديثة نعمةً وهبَتها أَخصبُ أرض،وهذه رسالةُ لبنان الى الدّنيا، قريبِها وبَعيدِها.لقد حملت ميّ مَزهوَّةً هذه الفَلذةَ الثقافية بمُدهشاتِها، أو خَزنَ ثروة الحضارة، في قلبها وعقلها، ونشَّأَت الأَجيال على تَلَمُّس جمالاتها. لكنّ قوافلَ الفرح نزحَت، ولم يَعد هنالك صِلةٌ بين الرُّبوع الطَّلقة وسواعدِ الخَير، ودخل لبنان شؤونَ الحرب والموت والمؤامرات، وغابَ عنه مَجدُ ” إليسّا ” وصورة ” إقليدس مُرَتِّب العقل “. وأمام هذا العَصف القاتل، لم تقف ميّ جليديّة الكلمة، فالثَّورةُ الشَّريفةُ في كيانِها مَشَت في سِلكها التَّعبيري، وقد أَيقظها اضطرابٌ مُتسائلٌ وقَلقٌ حَيران، حَشدا مواجهةً “رُجوليّة” كَغَضَب فينيقيا، ولا عَجَب، فالوجدانُ الشَفّافُ عِدَّتُه انفعالٌ وانعكاس. إنّ الثّورة مع ميّ هي النَّقلةُ من الذّوبانية الى الحريّة، وهي انعتاقُ الهويّة من العَزل، وهي مَذهبُ الجرأة للعُبور من نُسخةٍ مُغفَلةٍ الى حيثيّةٍ مُلتصِقَةٍ بحتميّة الوجود.إنّ ثورة ميّ هي اقتحامٌ لأملاك الشَّياطين، ليعود لبنان أرضَ ” إيل”.
في التاريخ لحظاتٌ تُتَرجِمُ لِدهور، وهي بحاجةٍ الى مَن يتحسَّسها. مي المرّ “أَجملُ حكايا لبنان” العنيدةُ باستمرار، وإن دمجَت عشقَها الذي لا يَشيبُ بمَشاهد التاريخ الحضاريّ، فهي لم تكن دليلاً سياحياً يدلّ على الأثر التَّذكاري، بقدر ما كانت مُنَقِّبةً موضوعيّة وبغير حاجةٍ لأن تتركَ للزمن أن يُثبتَ صدقيّةَ كتابتها.