تقع الحجارة الأولى التي تنطق ببدايات مدينة لندن عاصمة بريطانيّا في ممشى ضيّقٍ جدّاً تحت كنيسة القديس بولس ببنائها العريق الضخم. سررت فعلاً، عندما وجدت نفسي يوماً أتلمّس ملامح تلك الآثار الأولى لمدينة الصحافة في ذلك الزقاق. ما أدهشني أكثر هو نصب تذكاريّ مرفوع ولوحة حفر عليها ما ترجمته:
“اللورد طومسون، لورد فليت، صانع الصحف البريطانيّة وناشرها في توجّه جديد. رجل مغامر وغريب، جاء من مكانٍ مجهول وكان صاحب الفضائل الكبرى الحافلة بالتفاني والشجاعة والنزاهة”.
و”فليت” هو إسم شارع الصحافة البريطانيّة العريقة والمعروفة الذي لم يكن فيه أيّ مكاتب لصحف اللورد روي طومسون إمبراطور الصحافة العالميّة الذي كان يملك 216 صحيفة في نهاية العام 1966 إلى العديد من دور النشر الموزّعة بين بريطانيا والولايات المتّحدة وكندا.
وُصف طومسون ب “الغريب” لأنّه، على الأرجح جاء إلى لندن من تورنتو في الأصقاع الكندّيّة التي ولد فيها في ال 1894، لكنّ هذا الرجل الغريب لا يشبه إطلاقاً شخصيّة “الغريب” في رواية الكاتب الجزائري الوجودي ألبير كامو، لأنّه لم يشبه سوى نفسه إذ راح يبحث عن جذوره التي وجدها في مدينة أدنبرة عام 1952، وكان في الثامنة والخمسين ورئيساً لأصحاب الصحف اليومية الكنديّة ومالكاً ل 19 صحيفة في كندا.
لماذا أكتب هذه الذكرى الرائعة؟
لا لأنني بوارد الدفاع والتبرير أو التهجّم على الكتابات الصحفيّة المحكومة حاليّاً بالعشوائية والصدفة والسرعة والإرتجال، ولا لإيراد إسم أحد كبار كتّاب الرأي الذي تدرّب في معهد طومسون للصحافة في “كارديف” عاصمة ويلز البريطانيّة، أقصد شقيقي الأكبر راجح الخوري الكاتب في جريدة “النهار” اللبنانية، ولا لأنّ طومسون شغل حيّزاً متقدّماً في محاضراتنا الجامعيّة في كليّات الإعلام العربيّة والعالميّة، بل للتذكير بمجموعة ملاحظات:
1- لأنّ اللورد طومسون، بالرغم من أنّه قرن الصحافة بالمال واعتبر التلفزيون مطبعةّ للرأسمال وهو ما يجذب العديد من الصحافيين اليوم، لكنّه دمغ تاريخ الصحافة بدلالات مشرّفة إذ إذ جعل الصحافة صاحبة “الجلالة” Majesty . وجلّ جلالاً يعني تقدّم في السن للرجل الجليل جمع أجلاء. وتعني الجلالة الحجم الكبير والكبر في العين والموقع المحاط بالعظمة والاحترام والإجلال، وهي كلمة إشتقّت أساساً من اللاتينية Majestas للدلالةً على الأنبياء والقديسين.
2- لأنّ روي طومسون ، كان يعتبر أيّ خطأ صحافي سواء أكان مطبوعاً مقصودأً أو مرتجلاً عفويّاً، وأيّ كلمةٍ غير لائقة بكاتبها وبمضمونها وبمكانها أشبه بذبابةٍ سقطت فجأة في قدرٍ من اللبن الرائب فوق المائدة. إنّها تورثك قدراً من الضيق والحرج: لا يمكنك سوى إبقاء القدر فوق المائدة وصرف الإنتباه عن النقطة السوداء، ولا يمكنك تحريك اللبن إخفاءً لما سقط، كما لا يمكنك قطعاً كسر القدر أمام الضيوف لأنّ في ردود الأفعال العشوائيّة كسراً للأقدار والأحرار من حولك.
3- لأنّه يمكن العثور على ملامح المقامات والسلطات الفردية والدوليّة في الترسّبات اللغوية. لو أخذنا كلمة “الخبر” Nwes باللغة الإتكليزية، فإنّها تعكس عند التهجئة حرفاَ حرفاً الجهات الأربعة أي الشمال North، الغرب West، الشرق East، والجنوب South وفي هذا تأشير لبريطانيّا العظمى التي لم تكن تغرب عن بلادها الشمس ويفترض بخبرها الصحفي أن يجوب الأرض تدليلاً أيضاً على عظمتها الصحافية.
4- لأنّه يمكنني السؤآل عن صحّة إرسال بذورٍ من شجر النخيل إلى المحطّة الفضائيّة بعدما حطّت في مسبار الأمل الإماراتية في المرّيخ ، باعتبار القفزات وتصميم المهمّات التاريخية الكبرى في أعمار الدول والشعوب ونهضاتها، غالباً ما تولد بأرحام القصائد والأحلام الهلاميّة، وإذ تتصلّب الإرادات وتتضافر الجهود تقفز الأفكار نحو البناء والتحقّق والبهاء، وهو ما حصل ويفترض أن يحصل عبر المضي في بناء الطاقات والموارد وجمعها في تقنيات الفضاء بل كلّ فضاء في مشاركاتٍ مماثلة دوليّة تصبّ إيجاباً في صورة العرب ونهضتهم وبريقهم وبناء مستقبلهم.
5- لأن بعض لبنان الشعبي والرسمي والعربي بدا في غيابٍ عن الموضوعيّة تدقيقاً في المشهد الإماراتي الذي استقطب العين العالمية عندما برزت الإمارات العربيّة المتّحدة في مدار الكوكب الأحمر. تيقّنت عبر متابعة الحدث خطوةً بخطوة أنّ مستقبلاً أكثر من غامض وخطيرٍ ينتظرنا في زمنٍ لا نتابع فيه لبنانيين أزهى الصور وأبهاها عن المستويات التي بلغها أشقّاؤنا بالنظام والكفاءة والعمل والمثابرة وحسن القيادة. وأكثر من ذلك شعرت بكثيرٍ من الحزن والإشفاق حيال بعض التعليقات السلبيّة والمرتجلة على ما نشرت بعنوان “الإمارات تقرع باب المرّيخ” وخصوصاً عبر وسائل التواصل الإجتماعي وقد يصدّق بعض اللبنانيين أن لبنان كان وما زال جامعة العرب وصحفهم ومشفاهم وقد سها عنهم أن الجامعات العالمية والسربون والجامعات الأميركية وغوغل ومراكز الأبحاث وكبريات المستشفيات والشاشات كلّها أصبحت في عواصم الخليج ومدنه حيث يتلاقى الغرب بالشرق ونشهد نهضات المدن الجديدة مقابل سقوط المدن العربيّة العريقة.