لطالما كان التصوّف إصباحًا مستغنِيًا بنفسه عن كلّ شمس، وجلوسًا الى مأدبة فردوسيّة بدون دعوة، لأنه تلقيح الذّات بنعمة الله. بعد كتاب ” الأخ نور “، انتقل الدكتور ربيعة أبي فاضل الى جَمع صلوات الأخ نور، وخواطره، وكتاباته، وأَعمل فيها التصنيف الواعي، والمنظَّم، لنجدَ أنّ ما أثبتَه ربيعة لا نعثر عليه في غير كتابه. وقد اعترفَ ربيعة أنّ ما كشفَه من خِصال الأخ نور، وشمائله، بعدَ نَقدٍ موضوعيّ، كان بإشارةٍ من الرّوح القدّوس.
لقد تمكّن ربيعة من إلقاء الضّوء على الأخ نور المنخطِف في النُّسك، والمتوغِّل في الزّهد، في شخصيّةٍ تجمع التأمّل والاندماج، فشخصيّة ال ” فَوق “، تنزع الى الفلسفة اللّاهوتيّة التي ارتاح إليها الأخ نور، ولم تكسدْ بضاعتُها في مراحل حياته، فعمَّقَت معرفته بالله، ليصبح الصّديق الوجدانيّ وجَواز الوصول الى الرّجاء. فكم من مرّة تطلّعَ صوبَه، وناداه : ” هلمَّ وحرّرنا من التعلّق بخيرات الأرض، وأعطِنا أن نحبَّ خيرات السّماء… أَنِر عقولنا بنور الحقائق الأزلية… استَولِ على إرادتنا لكي نؤثر احتمال العذاب على اقتراف الخطيئة…”. أمّا الاندماج فخاضَه الأخ نور بمزاجٍ أخلاقيٍّ انتفاضوي يهدف الى تعليم النّاس أنّ هدم الخير صعب. ومن نداءاته : ” أحرقوا خطاياكم بنار المحبّة… كونوا متآخين، متحابّين، متصالحين، متساعدين في الأعباء، متقدّسين بالحقّ… ولتكنْ ضمائرُكم حيّةً في عمل الخير لكلّ مضرور…”.
لقد نقل الأخ نور زادَه الذي ارتواه من نعمة الله، الى الشَّباب، بهدفِ تقويم الذّهن، وتهذيب الحسّ، وترسيخ حمايتهم من شطَطٍ صوب الخطيئة، ومَغنَطَةِ المادة، ما يدفع الى تيهٍ عن البِرّ. وهكذا، ساهم الأخ نور في بناء شخصيةِ مواطنٍ إنسان، يتّخذ المحبّة دِينًا وخليقة. قال لهم : ” أنتم أخذتم الوزنات، ومفاتيح المعرفة، لا تُهملوا الرسالة، فالنفوس جائعةٌ أكثر من الأَجساد…”، وتوجّه الى كلّ شابٍ قائلًا : ” إيّاك أن تعمل من دون ضمير، وأن تأكل من دون تعب، وأن تعترف من دون ندامة، وأن تعطي من دون فرح …”. ومن الإرشادات : ” نجّنا من الكبرياء والرّياء، داءِ بَشريّتِنا… فلا يجوز أن نجعل الضّمير في إجازة… إِنّ كلّ صمتٍ عن الظّلم هو اشتراكٌ فيه … “.
إذا توغّلنا في نصوص الأخ نور، نجدنا ننفذُ الى سيكولوجيّة رَجلٍ دقيق الشّعور، عذب الرّوح، سكب معرفتَه في الخدمة بمحبّةٍ من دون ضوضاء، وكانت غيريّته ائتلافًا ساحرًا بين الرِّفقِ والكِبَر، بين الوداعة والجرأة، وبين الثّوبِ العَليل وغِنى الرّوح. لقد خرجَ الأخ نور من كتاب ربيعة أبي فاضل التّوثيقي، بل من مخبّآت نفسه، آيةً، كلّما رُوينا من وصلِها ازددنا إليها ظمأً…