تسللت اضطرابات السندات العالمية إلى اليابان، وهي ركن من السوق لم يشهد تقلبات تُذكر لعقود، وهذا يثير قلق المستثمرين الذين ينتابهم القلق أصلاً بسبب التوترات في سوق سندات الخزانة الأميركية.
يُنظر إلى البنك المركزي الياباني -“بنك اليابان”- باعتباره “حوت” سوق السندات المحلية نظراً لامتلاكه أكثر من نصف السندات السيادية للبلاد، لكنه بدأ تدريجياً في تقليص ميزانيته العمومية وخفض مشترياته من السندات. لكن السؤال هو: من المهتم بالشراء أيضاً؟
في 20 مايو، فشلت عملية بيع سندات لمدة 20 عاماً مع ضعف الطلب إلى أدنى مستوى له في أكثر من عقد. أما مزاد السندات لأجل 40 عاماً في 28 مايو، فقد قوبل بأضعف طلب خلال 10 أشهر. ويتفاقم الانهيار في سوق السندات الحكومية اليابانية البالغة قيمتها 7.8 تريليون دولار منذ أن كشف الرئيس الأميركي، دونالد ترمب، عن رسومه الجمركية في “يوم التحرير” في أبريل.
1) ما الذي يجعل السندات الحكومية جذابة (عادةً)؟
تُعتبر السندات الحكومية عموماً واحدة من أكثر الأصول أماناً للاستثمار فيها لأن احتمال إفلاس المصدر -وهو الحكومة- منخفض نسبياً. ويرجع ذلك إلى أن الحكومة تضع قواعدها الخاصة ويمكنها عادةً جمع الأموال عند الحاجة. تميل السندات طويلة الأجل إلى تقديم عوائد مرتفعة نسبياً مقابل مخاطر منخفضة نسبياً لأن المستثمر يوافق على تثبيت سعر الفائدة لفترة زمنية طويلة، مثل 20 أو 40 عاماً. وخلال تلك الفترة قد تنخفض أسعار الفائدة، وبالتالي يُكافأ المستثمرون على تحملهم المخاطر.
والسندات اليابانية، بشكل خاص، تُعد منذ عقود واحدة من أكثر أسواق الديون الحكومية استقراراً على مستوى العالم. لكن الطلب عليها كان ضعيفاً مؤخراً، وذلك لأسباب عدة، ما أدى إلى انخفاض أسعار السندات وارتفاع العائدات بدورها.
2) لماذا كان الطلب ضعيفاً؟
كان البنك المركزي الياباني، لفترة طويلة، أكبر مالك للسندات الحكومية اليابانية. وكانت البلاد، حتى وقت قريب، عالقة في دورة انكماشية منذ تسعينيات القرن الماضي، عُرفت باسم “العقود الضائعة”. وكان شراء السندات، الذي يسمح للحكومة بإصدار مزيد من الديون وزيادة الإنفاق نتيجة لذلك، جزءاً من استراتيجية بنك اليابان لتحفيز الاقتصاد.
الآن، مع خروج اليابان من الانكماش، لم تعد تركز على تعزيز الاقتصاد من خلال شراء السندات، وأصبح بإمكان البنك المركزي أن يركز على تقليص حيازاته الكبيرة. في نوفمبر 2023، بلغت حيازات بنك اليابان من الديون مستوى قياسياً. وحتى الآن، قلص البنك ميزانيته العمومية بمقدار 21 تريليون ين (146 مليار دولار)، وخفض مشترياته بمقدار 400 مليار ين من الديون كل ربع سنة.
عادةً ما تُقتنص سريعاً السندات طويلة الأجل ذات العوائد الجذابة من قبل شركات التأمين اليابانية وغيرها من المستثمرين المؤسسيين، لكنهم لم يسدوا الفجوة هذه المرة. ينتظر أغلبهم حتى تهدأ التقلبات الناتجة عن الحرب التجارية التي بدأت بها إدارة ترمب في أوائل أبريل، وتنجلي حالة عدم اليقين بشأن مسار رفع أسعار الفائدة من بنك اليابان.
كان هناك بعض الطلب من المستثمرين الأجانب، رغم أن حيازاتهم ضئيلة مقارنة بالمستثمرين اليابانيين الكبار. في أبريل، اشترت الصناديق الأجنبية ديوناً يابانية قياسياً بلغت 2.29 تريليون ين بآجال استحقاق تزيد على 10 سنوات. وجاء ذلك بعد مشتريات قياسية في فبراير ومارس أيضاً. قد يكون ذلك نتيجة استراتيجية تداول، “بيع أميركا”، التي اكتسبت زخماً في الأسواق، مع التشكيك في مكانة سندات الخزانة الأميركية كملاذ آمن.
3) ما الذي يحدث عالمياً للسندات؟
تفاقمت موجة بيع السندات الأطول أجلاً في أسواق كبرى عديدة حول العالم منذ أن كشف ترمب عن تعريفاته الجمركية في “يوم التحرير” في أبريل. ويثير عدم اليقين بشأن هذه الرسوم، وما إذا كانت ستتطلب من الحكومات زيادة الإنفاق استجابة لها، وما قد يترتب على ذلك من آثار على اقتصاداتها، قلقاً واسعاً. في الولايات المتحدة، تضخم بيع السندات في مايو بعد أن جردت وكالة “موديز” البلاد من آخر أعلى تصنيف ائتماني لها. مع ذلك، كانت التحركات في السندات اليابانية ذات الآجال الطويلة شديدة بشكل خاص.
4) ما المخاطر؟
قد يزيد ضعف الطلب على السندات، وبالتالي ارتفاع العائدات، من تكاليف الاقتراض على الحكومة اليابانية، والشركات، والمستهلكين. وتوجد مخاوف قائمة بالفعل بشأن عبء الديون الهائل على اليابان. في 19 مايو، قال رئيس الوزراء الياباني، شيغيرو إيشيبا، إن الأوضاع المالية لليابان أسوأ من أوضاع اليونان.
كما أن ذلك يضع بنك اليابان في موقف صعب، إذ يوازن البنك بين الدعوات للحفاظ على انخفاض تكاليف الاقتراض وبين الحاجة إلى رفع أسعار الفائدة للسيطرة على التضخم.
بالنسبة لشركات التأمين على الحياة في البلاد، يمكن أن تعني عائدات السندات المرتفعة خسائر غير محققة ضخمة. أبلغت أربع من أكبر شركات التأمين على الحياة اليابانية عن خسائر ورقية غير محققة مجتمعة تبلغ حوالي 60 مليار دولار على حيازاتها من السندات المحلية للسنة المالية الحالية، وهو ما يقرب من أربعة أضعاف الإجمالي قبل عام.
كما حذر “دويتشه بنك” من أن ارتفاع العائدات اليابانية قد يجعل السندات أكثر جاذبية للمشترين المحليين، ما قد يدفع المستثمرين إلى سحب أموالهم من الديون الأميركية. وقال “سوسيتيه جنرال” إنه بينما استفادت أسواق السندات والأسهم الأميركية سابقاً من تدفق الأموال من اليابان، قد يأخذ هذا التدفق الآن المسار المعاكس.
5) هل يستطيع بنك اليابان إنقاذ الموقف؟
خلال جلسات الاستماع التي عقدها بنك اليابان مع المشاركين في سوق السندات مؤخراً، دعت كبرى شركات التأمين على الحياة وصناديق التقاعد البنك المركزي إلى اتخاذ إجراءات.
هناك تكهنات بأن وزارة المالية اليابانية قد تنظر في خفض إصدار الديون ذات الآجال الأطول من أجل موازنة العرض والطلب. وفي خطوة غير معتادة، أرسلت الوزارة استبياناً لاستطلاع آراء المشاركين في السوق حول الكميات المناسبة لإصدار السندات فائقة طول الآجال، حسبما ذكر أشخاص مطلعون على الأمر. وتؤكد هذه الخطوة على كيف تسعى اليابان لاستعادة الاستقرار في السوق بعد المزاد الضعيف لسندات أجل 20 عاماً.
سيراجع البنك المركزي خططه لشراء السندات خلال اجتماع مجلس الإدارة في يونيو، وقال المحافظ، كازو أويدا إن بنك اليابان سيراقب تطورات السوق عن كثب.
المصدر: بلومبرغ