“رحت اجمع جسدي المبعثر بأصابعي المرتجفة
لأكتب نص الإثنين في زاوية “بأقلامهم في “ليبانون فايلز”. حككت رأسي
ومسحت وجه الشاشة فوقعت مقهورا على نص أرسله لي الزميل الأديب البروفسور حسن اسماعيل أستاذ الآداب العربية المتقاعد في الجامعة اللبنانية. هو من “ميس الجبل” في أقاصي الجنوب اللبناني استفقدناه لكنه فاجأني بنصه وحكاية عمره وأمامه بقايا رماد مكتبته وبقايا الكتب تصرخ ولو لإنقاذ أقصوصة من مكتبته العظيمة
ولهذا استأذنته مقدما حزني ومساحتي وحبري وعزائي ومحبتي له ولنصه الذي عنونته هذا الاثنين طالبا الرحمة للحبر والعلم والكتب والكتابة في تفشي الحرائق
وإلى نص البروفسور حسن اسماعيل واقدم له مقترحا العنوان التالي:
أبحث في حريق العمر
عن بقايا قلم ومبراة
بروفسور حسن اسماعيل
“لملمتُ مكتبتي في أماكن التهجير وأنا أُلَملمُ أشلاء عمري بين تظاهرة ومتراس. وإذ دخلْتُ الكتّاب ثمّ المدرسة فقد كنت أستصحب كيساً يحتوي على دفتر وقلم رصاص وممحاة، وأما المبراة فلم يكن لنا عهد بها؛ فكنا نقلم القلم بسكين أو بشفرة حلاقة، ناهيك بأقلام التلوين التي كانت من ” الكماليات” المدرسيّة. وأذكر أنّ أبي “رفدني” بحرْفيّة” – وهي كتاب لتعليم الأحرف – في الربع الأخير من العام الدراسيّ الأول… من هنا بدأت الحكاية.
وفي الصيف الفاصل بين الصف الثاني والصف الثالث أتاني أبي بالكتاب، وقال: إقرأ، وأنا بعدُ لا أجيد القراءة، فقرأت، فكان – وهو لا يعرف القراءة – يصوّب أخطائي في تهجية الحروف وفي إعراب الكلمات، فكنت أقرأ كلّ ليلة ما تيسّر من السوَر إلى أن يغلبني النعاس، حتى إنّ جيراننا وضعوني بعد أشهر أمام جثمان جارتنا أم علي غبشة، وطلبوا إليّ أن أقرأ القرآن على نور مصباح خافت، وحولي بضع نسوة يُوَلْوِلنَ.
وفي المرحلة الابتدائية لم نكن نعرف غير الكتاب المدرسيّ، حتى إذا صرنا في الصف الثاني التكميليّ راح معلمنا حسن حبحب يوجّهنا إلى المطالعة، فبدأنا نسمع بجبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وتوفيق يوسف عواد وغيرهم. وأرسلت إلى أبي قصاصة ورق عليها بعض أسماء كتب جبران، فحصلت بعد أشهر على “الأجنحة المتكسّرة” و “رمل وزبد”، لكنّي لم أفِد كثيراً منهما لصعوبة لغة جبران بالنسبة إلى ولد في عمري. ولم ترتفع علامة الإنشاء في الصف الثالث التكميلي عن ثماني علامات من عشرين، مع أنّ علامة القواعد لم تقلّ عن ثماني عشرة، حتى إذا صرنا في الصف الرابع ( البروفيه) وانتقلنا إلى مدرسة بنت جبيل العالية حدث تحوّل نوعي في علاقتي بالكتاب، حيث كان معلم اللغة الفرنسيّة فاروق ذياب يوزعّ لنا كتباً بالعربيّة والفرنسيّة، ويطلب إلينا قراءتها في أسبوعين وتلخيصها، أضف إلى ذلك تشجيع معلمنا محمد فلحة ( أبو وحيد) الذي كان يدقّق في كتابة الإنشاء فارتفعت علامتي في الامتحان الرسميّ من 8/20 إلى 16/20.
في دار المعلمين تعلمت على أساتذة، من مثل د ميشال عاصي ود علي شلق، أحببت بفضلهم الكتاب، فتنوعت قراءاتي فاشتريت معجم الرائد لجبران مسعود، وراحت ” السُبحة تكرّ” : كتاب من هنا ومجلة من هناك، وجريدة أقرؤها ثم رحت أوزّعها، وفي ما بعد أسهم في تحرير صفحتها التربوية.
واتّسعت رقعة اقتناء الكتاب في الجامعة، فرحت أنا وصديقي عبد الكريم قبلان نشتري أيّ كتاب له علاقة بمادة الدراسة، حتى قرأنا أحد عشر كتاباً لمادة الأدب الجاهلي. وفي التحضير لرسالة الماجستير ثم شهادة الدكتوراه ارتفعت وتيرة الشغف بالكتاب، وحالت الحروب المتنقّلة بيني وبين المكتبات العامّة، فصرت ألاحق الكتاب أينما كان مصدره، فأشتريه من المغرب والجزائر وتونس ومصر وليبيا وسوريا والعراق والسعودية وعُمان والأردن، وحملت بعضها من موسكو ومن مكتبة الأونيسكو في باريس، ولم تعتب عليّ دور النشر في لبنان، حتى إني بخلت على لقمة عائلتي ومسكنها لمصلحة الكتاب؛ فاقتنيت منها ما يقارب خمسة عشر ألف كتاب، تنوّعت موضوعاتها بين الشعر والنقد والفلسفة والحضارة والتاريخ وعلوم اللغة وعلوم الدين، وتباعدت تواريخ إصدارها بين منتصف القرن التاسع عشر ويومنا الحاضر .
في أواخر 2022 وحين صار معاشي أقل من خمسين دولاراٍ اضطررت إلى ترك منزلي المستأجر، وحملت أمتعتي إلى بيتي في بلدتي ميس الجبل وقلبي يخفق خوفاً على مكتبتي. وعندما سألوني عن سبب خوفي أجبت: قد نستطيع إعادة بناء منزل يُهدم لكننا لن نقدر على التعويض عن كتاب يضيع.
في أواخر سنة 2024 أقدم العدوّ على هدم بيتي وفيه مكتبتي مع آلاف البيوت في قرانا الجنوبية .
ها هي حكاية مكتبتي التي بدأت من أن اشترى أبي تلك الحرفيّة، إلى يوم أهديت أول كتاب لي إلى حفيديّ محمد وحسن، وها أنا أتابع الكتابة لعلي أهدي الجدبد عندي إلى بقية أحفادي وإلى أطفال بلادي.
في عيد الأب أذكر أبي الذي ودّعته في مثل هذا اليوم منذ ثماني سنوات، وأذكر الحرفيّة الأولى التي كانت فاتحة شهيتي إلى الكتاب”.