ريم وليد شاهين – سيدني
يقولون بأنّ من غادر وتغرّب عن وطنه وابتعد عن عائلته، تجده اليوم مرتاحاً، فهو لا يسمع جدار الصوت ولا تخيفه مشاهد النيران بعد دوي الغارات وحدوث الإنفجارات…ولا يعبأ بشدة القصف أو مكانه…يقولون لهؤلاء المغتربين “خففوا تنظير” فأنتم لستم معنا ولا تقترحوا علينا ماذا يجب أن نفعل، فنحن نعيش الحرب وندرك ما هو الأنسب لنا، فلن تخافوا علينا أكثر من خوفنا على أنفسنا..نعم هذا حال كلّ مغترب مفطور القلب يشعر بأنّه بخير، بينما عائلته وأصدقاؤه يعانون من حرب شعواء لم تترك شيئا لا بشر ولا حجر…
إنّ فرق التوقيت في أستراليا يجعلنا نمزج الليل بالنهار، مسمّرين أمام شاشات التلفزة نتنقل بين قناة تلفزيونية وأخرى ونبحث في كل مجموعات وسائل التواصل الإجتماعي لمتابعة مكان الغارة أو الإنفجار لنطمئن أنفسنا بمسافة بعدها عن عائلاتنا.
وإن استسسلمت جفوننا للنوم نستيقظ مفزوعين بحثا عن هواتفنا للإطمئنان على أهلنا في ساعات الفجر الأولى، ثمّ يستنزفنا النعس قبل أن نعود للإستيقاظ بنفس الطريقة وقبل أن نتجه لمتابعة حياتنا اليومية، التي بات محورها كلمة نسمعها أو نقرأها عبر الهاتف ” لا تخافوا نحن بخير”. إنها كلمة باتت بمثابة القوت اليومي الذي يحتاج له كل مغترب لبناني حول الغالم…أحياناً نشعر أنّ ما نراه ونسمعه هو فيلماً سينمائياً مرعباً وعلى رواد صالات السينما البقاء صامتين لمشاهدة الأحداث، فوحده المخرج والأبطال من يعرف النهاية…
ولكن في الحقيقة نحن أمام أولاد فقدوا آباءهم أو أمهاتهم، أو العكس نعم فما نسمعه عن عدد الضحايا من الأطفال يجعل الدموع تنهمر من صميم فؤادنا، زوجات فقدن أزواجهن، شباب وشابات، مسنين، لا بل عائلات بأكملها هدرت أرواحها…نعم فتلك الغارات لم تفرق بين الذكر والأنثى أو بين فئة عمرية أو مذهب أو طائفة… هذا ليس فيلماً سينمائياً وشعوب وحكومات العالم أجمع ليسوا برواد صالة سينما، ولا يجب أن يبقوا مكمّمّين، مكتوفي الأيدي أمام مشاهد المجازر والإبادة التي يشهد عليها غصن الزيتون والأرزة .
تصف نهلة شقرا وهي أسترالية فلسطينية الأصل من مواليد لبنان، إحساسها بالحزن والقلق حالها كحال أيّ مغترب، وتقول:” حالي ككلّ مغترب ترك أهله وعائلته وإخوته وهاجر. نحن نشعر حقيقةً بالرعب في كلّ ثانية تمرّ بدون أن نتفقد أهالينا. نحن ننام خائفين أن تدقّ ساعة الفجر ونفاجأ بخبر يفجعنا، فالإحساس السلبي يسيطر علينا في بلاد الإغتراب بالرغم من أننا نعلم أن الله يدبّر الأمور. نحن فعلياً إستشهدنا نفسياً. نعم أهلي في الشمال ولربما لا يزال القصف بمنأى عنهم نوعاّ ما. ولكن لا أستطيع أن أرتاح فنحن أمام عدو لا يفرق بين منطقة و أخرى أو فئة وأخرى، فليس على الحرب أن تكون فقط بالرصاص والصواريخ، فأختي في لبنان أصابها إنهياراً عصبياً مما تسمعه وتشاهده.
وهنا في سيدني، نجتمع مجموعة من النساء في كل صباح ونتبادل الأحاديث ونسأل بعضنا عن أهلنا، فجارتي سهام من جنوب لبنان لا يزال أولادها في لبنان وطبعاً تهجروا والحزن والدمعة لا تفارقها وقد فقدت نصف وزنها من شدّة الخوف والقلق على أولادها”.
إنّ حال نهلا وسهام، كآلاف من المغتربين من رجال ونساء ليس فقط في سيدني بل في مختلف مدن أستراليا، وفي مختلف البلاد والقارات.
وتشهد أستراليا بين الحين والاخر مظاهرات منظمة داعمة، ناهيك عن بعض المؤثرين على وسائل التواصل الإجتماعي الذين يسلطون الضوء بأساليب مختلفة على كلّ ما يحدث، إضافة إلى بعض المبادرات الفردية والمجموعات التي تجمع الأموال وترسلها كنوع من الدعم للأهل والأقارب .
ويبقى الحزن والقلق وجهان لعملة واحدة يتداولها كلّ مغترب طيلة اليوم، مهما كان يفعل وهاجس منامه، على أمل أن تتبدل الأحوال ويعود للقاء من يحبّ، لا فاقد ولا مفقود.
ما يصبّرنا رؤية أنّه بالرغم من كلّ المآسي ومحاولات زجّ الوطن في آتون الفتنة في خضم حرب هوجاء فاقدة للإنسانية، أثبت اللبنانيون أنّهم شعب واحد بكلّ ما للكلمة من معنى، شعب يتصدى لكلّ المحاولات الفاشلة، شعب رافض للذلّ، محبّ للحياة، مؤمن بأنّ مهما طالت الشدائد “لبنان رح يرجع” .