عندما حرصَ الزّمانُ على أن ينخرطَ الظَّرفُ في فنِّ المسايرة، وفي مسيرةِ النّقدِ الصّريحِ الهادِف، تَكَشَّفَ له مَنْ كان الأَدربَ في ذلك، ووصلَ، تَوًّا الى جورج جرداق. ويومَها، رسمَ الحبرُ وجهًا بأكثرَ من ريشة، وجهًا لا يمتلكُ غيرَ عباءةٍ، وابتسامةٍ، وقلم، وجهَ مفكِّرٍ لبِق، وطنيٍّ بامتياز، حافظَ على ترفِ الملوكِ في زمنِ المشقّاتِ، وأعاجيبِ الألم.
جورج جرداق صيّادٌ، عِقَدُ شبكتِهِ متينة، محبوكةٌ بصنانيرِ الأحداثِ والأحاديث، فلم تكنْ رِزقَتُهُ، يومًا، جاروفةً عشوائيّةً من كَرَمِ البحر. وبالرَّغمِ من أنّ جرداق عاشرَه الملوكُ وذَوو الأحوال، وتودَّدَ إليه المرموقون، لكنّه لم يكنْ، مرّةً، مملوكًا. لقد مارسَ الجرأة، وانتصرَ للحقيقة، ولم يقيّدْ نفسَه بالمسموحِ والمُمكِن، فشهدَ على البَطاناتِ في نسيجِ الفسادِ القبيح، وظَهَّرَ أشباحَ الصّولاتِ المشبوهة، ونافَرَ مَنْ خالفوا سُبُلَ العدلِ، والحقّ، فكَدَّرَ عليهم صَفوَهم. ومع هذا، لو قُدِّرَ لجرداق أن يعيشَ، في يومِنا، ليرى ما ابتكرَه الفاسدون من الحِيَل، لَبَدَت له حِيَلُ مَنْ واجَهَ من أهلِ زمانِهِ، ألاعيبَ صبيانيّة.
جورج جرداق من رعيلٍ فُطِرَ على الفكاهةِ، وقصصِ الظَّرفِ الماجِنة، فلم يتركْ دعابةً ترتاح، خصوصًا تلك التي تنالُ من سلوكِ النّافذين، وكان الأكثرَ براعةً في تصريفِ أفعالِها، ولم يُطالِبْها بنسبةٍ من الأرباح، بالرَّغمِ من أنّه، في آثارِها، طافِح. هو المَرِحُ، ذو النّفسِ اللّطيفة، المليحة، التي شربَت صَفوةَ الحياةِ بحُسنِ المَسرى، وطِيبِ المَخابِر، لِذا، كانَ حَيَّ الإحساس، وفصلًا مُجيدًا من فصولِ سِفرِ الضّحكةِ النّاقِدة، هذه التي لَو ضاعَت، بعدَه، يكفي أن يُحسِنَ اللهُ لصانِعها الجزاء.
لم يكنْ جرداق وَقورًا، بالمفهومِ القاموسيّ، فلم يحتجزْه وقارُهُ عن الإرشادِ الى التفكّه، حتى قيلَ إنّه كان يخدمُ تشريعَ الفكاهةِ بُحسنِ تَصَرّف،فالفكاهةُ موهبةٌ تستوجبُ قدرةً لم تُعطَ إلّا للأقلّين من النّاس. وتجدرُ الإشارةُ الى أنّ جرداق تجاوزَ السّخريةَ الظّاهرةَفي الفكاهةِ، الى أَبعادِها النّقديّةِ التي تتعلّقُ بمجتمع الناس، سلوكًا، وعلاقاتٍ، وسلطةً، وانتهاكَ قِيَم… حتى أتَت كتاباتُه في منشوراتِ دارِ الصيّاد، وفي برنامجِهِ الإذاعي، سجلًا أمينًا لحقبةٍ عاشَها جرداق حتى النّبض.
كان قلمُ جرداق يوظِّفُ الوسائطَ المتنوّعة لصنعِ الدّعابة، كالتّصوير الكاريكاتوري، والمبالغة، والحوار، والحكاية… وكأنّه، في هذا المجال، يُجاري ما قالَتهُ العربُ : ” إنّ التّقصيرَ في التَفَكُّهِ نَدَم “. وهكذا، وضع جرداق للنّكتةِ النّاقدةِ قاموسًا جديدًا، على مستوى الأسلوب، فإنْ كانَ باطِنُ الدّعابةِ الهادِفُ لاذِعًا، في موضوعَي الحُكمِ، وعلاقاتِ النّاس، فقد آثرَجرداق المُهذَّبُأن يكونَ التّصويرُ المُضحِكُ الهادِفُ هادئًا، ناعمًا، بعيدًا عن المُعاقبة، وعن التَّشويه، ليصبحَ نافذةً الى فلسفةِ الضَّحكِ العابرةِ لفئاتِ الناس، ونفسيّاتِهم، وطِباعِهم، وملامحِهم…
إنّ جرداق المَرِح، في تهكّمِهِ، ونقدِهِ، وأسلوبِهِ الفكاهيّ، كان سريعَ الخاطرة، ولم يكنْ يستجدي الضّحكة، فأبطالُ نُكاتِهِ، ونقدِهِ، هم أناسٌ من لحمٍ ودمّ، يتحرّكون، ويتحاورون، ويضحكون، أيضًا، كما هم في الواقعِالحَيِّ المعيوش، وكذلك، فإنّمقاماتِ نقدِهِ مستمدَّةٌ من يوميّاتِ الحياة، وليسَت غريبةً عن مندرجاتِها. من هنا، كانت طرائفُهُ النّقديّةُ مرآةً تنعكسُ على سطحِها ألوانُ المجتمع القوس- قزحيّة.
ينبغي أن نُشيرَ، في القَفلة، الى أنّ جورج جرداق المُتَفَكِّه، الظّريف، الهازِل، النّاقِد، كان من أَعرَفِ أهل زمانِهِ في فنِّ الغناء، والوَتَر، فما ضَنَّت عليه ” سِتُّ ” مُطرباتِ الزّمان، أمّ كلثوم، بواحدةٍ من إعجازاتِها، والتي كتَبَها، وبقيَتْ تُنشِدُ ” أَغدًا أَلقاك ” حتى موعدِ عرسِها في السّماء.