لم يشهد العالم، منذ حرب فيتنام ضد الإحتلال الاميركي، حركة شعبية عالمية مناهضة للتنكيل بشعب من الشعوب، كما حال اليقظة الأممية على فداحة الإرتكابات الصهيونية ضد الفلسطينيين الذين استفاقت البشرية مجدداً على مدى الظلم اللاحق بهم، ولم يكن ذلك ممكناً لولا أن أهل غزة أذلوا الموت واسترخصوا الحياة، وأعادوا سيرة بطولات غيّبها البحث التفاوضي في مقرات الأمم المتحدة، من الجمعية العامة إلى مجلس الأمن، ناهيك عن أروقة جامعة الدول العربية، ومؤتمر الدول الاسلامية، ومجموعة دول عدم الانحياز، وغيرها من المؤسسات الدولية التي تبقى قراراتها، جميعا، رهنا بمدى تناسبها مع ما تستنسبه الولايات المتحدة الأميركية، وتشير عليها به دولة الكيان الصهيوني.
قد تختلف التقييمات لما جرى منذ السابع من تشرين الأول الماضي، ويمكن كل طرف أن يسوق ما يريد من استنتاجات، حول صواب عملية “طوفان الاقصى” أو “خطأ” التورط في إطلاق عنانها، أما وقد صارت واقعاً مُعاشاً، فإن لا انفكاك من الإعتراف بأنها أنزلت القضية الفلسطينية عن رف النقاشات والمماحكات، وصفعت بها وجه العالم. والأهم أنها فضحت كذبة القيم الإنسانية العليا التي تتغنى بها دول الغرب الأميركي والأوروبي، التي أعطى الجيل الشاب فيها إشارة واضحة إلى أنه لم يسقط في كمين التضليل الاسرائيلي – الأميركي، ولم تعد تنطلي على أحد مشهدية جالوت القوي وداوود الضعيف، الذي تقول الرواية الدينية إنه هزم الأول. (داود شخصية تاريخية مذكورة في الكتاب المقدس، وهو ملك إسرائيل الثاني بعد شاول. وجالوت هو أيضًا شخصية تاريخية مذكورة في الكتاب المقدس، وهو عملاق في الجيش الفلسطيني في ذاك الزمن، وتدور قصة جالوت حول معركة بينه وبين داود. وبالرغم من كون جالوت ضخمًا وقويًا، إلا أن داود تمكن من قتله باستخدام مقلاع وحجر واحد. وكانت اسرائيل تروج، في ما تروج، رمزية “صراع” الإثنين لتظهير ظلامتها في المنطقة واستهدافها، وضعفها المزعوم.
لم يعد إدعاء الضعف والدعة ينطلي على شعوب الأرض، فوسائل الإعلام، قديمها والحديث، نقلت بالصوت والنص والصورة فظائع الجيش الاسرائيلي وتنكيله بالفلسطينيين، لكن ذلك لم يضعف عزيمتهم، ولا سرّب الوهن إلى إرادتهم، ما حفز العالم على تأييدهم، وإدانة واشنطن وغيرها من الدول، فالقرار الشعبي في أغلب دول العالم لم يمارِ تأييده للفلسطينيين، ورفض الحقد الصهيوني عليهم وتعامله معهم كأنهم كائنات دون البشر مكانة ومقاما، يكفي دليلاً إلى ذلك أن الاحتجاجات على الوحشية الصهيونية شملت أكثر من 40 جامعةً أميركيةً معبّرة عن رأي عام واسع لدى الشباب الأميركي، رافض للحرب الإسرائيلية ولاستمرار العُنف، وأيضاً غير خاضع للبروباغندا المستمرّة التي سوّقت على مدى عقود لسردية المظلومية الإسرائيلية، وحوّلت الفلسطيني من مُطالِب بحقه وبأرضه إلى “إرهابي” و”معادٍ للسامية”.
اللافت أن التضييق الذي مارسته وسائل التواصل الاجتماعي لمنع وصول الصوت الفلسطيني، لم ينجح في تغييب الحقيقة، بدليل استقالات موظفين كباراً في وزارة الخارجية الأميركية ووزارة التعليم، وفي تشرين الثاني وقع أكثر من 1000 مسؤول في الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، التابعة لوزارة الخارجية، على رسالة مفتوحة تدعو إلى وقف لإطلاق النار على الفور.
في مطلع ثمانينات القرن الفائت، أصدر بول فندلي، العضو السابق في الكونغرس الأميركي كتاباً بعنوان”من يجروء على الكلام”، فضح فيه التغلغل الصهيوني في قرارات الإدارة الأميركية المحابية لإسرائيل والصهيونية.وقد حورب الكتاب، وكل ما أصدر فندلي وغيره ممن لا يراعي مصلحة اسرائيل، لكن حشود الشباب الأميركي اليوم أعطى الرد القاطع: هناك من يجروء.