بقلم د. نبال موسى
أعرف تماماً ان هذا المقال لن يلقى الاستحسان عند عدد كبير من الناس، ولن يؤيده سوى أولئك الذين يُحكّمون عقولهم وليس قلوبهم وعواطفهم. أما الذين سيواجهونه بالاستهجان والاستنكار، فهؤلاء في النهاية ـــ هم وغيرهم ـــ الخطر الأكبر على أمتنا العربية، وهم سبب تخلفها وانحطاطها، لأن الأمم لا تبنى بالعواطف والمشاعر المتقلّبة، بل بالعقل والوعي والمعرفة، وبمواجهة الحقيقة كما هي مهما كانت النتائج.
ثم يجب أن أبوح للقارئ بأنني أستاذ جامعي سابق، وبأنني درّست مادة ” أصول البحث العلمي”، وهي مادة سيكون لها دور مهم فيما بعد في حياتي المهنية الإعلامية.
عُرٍض عليّ في العام 1999 الذهاب الى المملكة العربية السعودية للمساهمة في إنشاء صحيفة ” الوطن” والعمل فيها. وكوني كنت سكرتير التحرير الأول، حيث لا يحق لغير السعودي ان يكون مديرا لصحيفة سعودية، فقد كنت عضوا في هيئة التحرير التي كانت تضم ثمانية أشخاص.
كنا نجتمع يومياً الساعة السادسة مساء للبحث في مختلف الأمور المتعلقة بإنشاء الصحيفة. ومرت الايام والاسابيع واقترب موعد الصدور وبدأنا نفكّر في ملفات “ساخنة” لنشرها في الأعداد الأولى لجذب الانتباه والقراء إلى هذه الصحيفة الجديدة، ولجعلها حديث الناس، مما يساهم في انتشارها.
في أحد الاجتماعات، طرح رئيس التحرير في ذلك الوقت قينان الغامدي، وهو من المهنيين السعوديين القلائل الذين صادفتهم في الصحيفة، طرح السؤال التالي: بماذا نبدأ؟ لا بد من البدء بمواضيع تشكّل “خبطة” قوية وسبقاً صحفياً يجعل الصحيفة حديث السعودية جمعاء.
أدلى الزملاء بآرائهم وقدّم بعضهم بعض المقترحات التي لم تكن ذات أهمية تذكر أو لا تفي بالغرض المطلوب ولا تصلح لما نصبو إليه.
وبما أن الهوامش كانت محدودة للأسباب المعروفة، والملفات الممكن نشرها في صحيفة سعودية محدودة، قلت: عندي اقتراحان، مقابلة وملف. أما المقابلة فأقترحها مع الرئيس العراقي صدام حسين! ضحك الجميع وقال رئيس التحرير: أَبعْد كل الذي حصل من احتلال للكويت والحرب … تريد ان نجري مقابلة مع صدام حسين؟ قلت: ولمَ لا؟ أنا كصحفي فرنسي مستعد للذهاب وطرح جميع الاسئلة الممكنة وأؤكد لكم أنها ستكون حديث الناس لفترة طويلة ، وستكون أيضاً أفضل وسيلة للترويج للصحيفة… لكن الموافقة لم تتم.
ثم قال رئيس التحرير: وما هو الملف؟ قلت: قد تكون الموافقة على مقابلة صدام أسهل من الموافقة على هذا الملف، لكنني سأحاول. ثم قلت: تعرفون طبعاً الكتاب المسمّى ” بروتوكول حكماء صهيون” الشهير جداً والمنتشر في العالم العربي بملايين النسخ منذ عشرات السنين، والذي بنيت عليه أفكار كثيرة ونظريات أكثر. قالوا طبعاً نعرفه. قلت: قليل من الناس يعرفون أنه تم اكتشاف أن هذا الكتاب مزيّف مائة في المائة وان كل ما ورد فيه من نسج خيال ضابط مخابرات روسي، ولا علاقة له بالصهيونية، وكل هذا بالصور والوثائق. فإذا نشرنا ملفاً حول هذا الموضوع سيكون مفاجأة كبرى للقراء ويحدث ضجة كبرى.
دُهٍش الجميع لأن أحداً منهم لم يكن يعرف هذا الموضوع مع أنه اكتشِف منذ سنوات طويلة لكن أحداً لم يجرؤ على نشره، ونظروا اليّ نظرة استغراب مع أنهم يعرفون موقفي من الكيان الصهيوني المغتصب والقضية الفلسطينية والدفاع عنها. ثم قال رئيس التحرير: طيب، الكتاب مزيف، لكن ما الذي يدفعنا للدفاع عن إسرائيل؟ قلت: يا أبا عبدالله، الغرض، من جهة، ليس الدفاع عن إسرائيل بل عن الحقيقة التاريخية المجرّدة، ومن جهة ثانية المساهمة في التسويق للصحيفة لأن مئات الآلاف من القراء الذين قرأوا أو سمعوا عن هذا الكتاب سيندهشون مثلكم لهذا الخبر ولن يصدقوا الا بعد رؤية الوثائق والصور. ويمكننا ان ننشر في العدد نفسه موضوعاً عن الفكر الصهيوني والأطماع الصهيونية…
قال: لا، لا يمكن نشره، ولكن ما هي الحكاية؟ قلت: باختصار، تم تأليف الكتاب في باريس في العام 1901 على يد ضابط من مخابرات الأمبراطورية الروسية اسمه ماتيو غولوفنسكي، وهو سرق جزءا كبيرا من كتاب يحوي حواراً خياليا جرى في الجحيم بين ماكيافيل والكاتب الفرنسي مونتسكيو ألّفه الكاتب الفرنسي موريس جولي. وهو كتاب ساخر يصوّر مخططا وهمياً أعدّه نابليون الثالث لاحتلال العالم. فجاء ضابط المخابرات الروسي ليحوّر المخطط وينسبه الى ” مجلس من الحكماء اليهود” هدفه القضاء على المسيحية والسيطرة على العالم. وكان الضابط والذين وراءه يهدفون الى إقناع الأمبراطور الروسي نيقولا الثاني بهذه المؤامرة اليهودية المزعومة ودفعه إلى محاولة القضاء عليهم، وبالتالي إضعاف حكمه.
وهكذا تغلّبت العاطفة على العقل، ولا أدري إن كانت هذه الحقيقة التاريخية معروفة لدى كثيرين في عالمنا العربي ـــ الاسلامي. على كل حال، كم من الحقائق والمعارف تجهلها أمتنا المسكينة.
ترقبوا مقالا للإعلامي الدكتور نبال موسى كل يوم اثنين