في تَشَقُّقاتِ الزمنِ مشاويرُ تتمدَّدُ فوقَ خارطةِ العَجَب، تُلزِمُ الوجدانَ على جرعاتٍ لا تعرفُ الليل، فلا يمرُّ بشجرةِ التفّاحِ التي أفرزَت خطيئة، إنّما بينبوعِ وجودٍ ماتَ بمعناه المُغتال، ليُبعَثَ، بعدَ ارتِقاب، مَنوراً بجسرِ القيامة.
كما أنَّ الخَصبَ هو اللّزومُ الأساسيُّ للبقاء، هكذا القيامةُ، هي طقسُ الإنبعاثِ الإجباريّ الذي نقلَ الإيمانَ من حالِ الرُّقادِ، والإنتحاب، بالصَّلب، الى إيديولوجيّةِ الفرح والنّور، أي نُهوضِ الوعيِ المَكبوتِ والمُتنازِلِ عن حقِّه، ليحتفلَ بترسيمةِ الحقيقةِ الخالدةِالتي هي الله.
في القيامة، لا نرى ثالوثاً أنانيّاً، منطوِياً على سرِّهِ الشّائك،يرعبُنا بغموضِه، ذلك لأنّ القيامةَ لم تكن ثمرةَ الوحيِ الإلهي بمعزلٍ عن تَقاسُمِ إنضاجِها مع الإنسان، فَبقدرِ ما هي فِعلٌ حيّ، بقدرِ ما كان نَزعُ شَوكِها، ودحرجةُ حَجَرِها،هما من خيوطِ نسيجٍ تَشارَكَ في حَبكِه الخالقُ والمخلوق.
القيامةُ، وإن حَجبَت صورةَ المسيحِ المَحسوسة، هي افتتاحُ عصرِ تَخالُطِ الله بالبشر، بعدَ أن وعدَهم به بالميلاد. فالقيامةُ جعلتِ اللهَ يأخذُ على عاتقِه مهمّةَ إنشاءِ سلسلةٍ جديدةٍ في تَعاطيه معنا، تتخطّى البدائيّةَ التوراتيّةَ في الإهتمام، لننتقلَ بفَهمِنا الله الى الجيلِ الثاني، بحيثُ يَبقى الزّمنُ ” الأسطوريّ” المُنتمي الى الماضي، مُغايِراً لزمنيّةِ ما بعدَ القيامة.
القيامةُ إنذارٌ لصدمةِ تَمَرُّد، وليست ظَرفاً نبيلاً لمأساةِ الجلجلة، إنّها تَغَيّرٌ، لذلك، أصبحَ ما قبلَها كلُّه مُصادفاتٍ تكادُ تفقدُ كلَّ أهميّة، وتتنازلُ عن كونِها مرجعيّاتٍ مفروضة. فالقيامةُالمُرفَقَةُ بعناوينَ كبيرةٍ ليس أقلَّها صعودُ ثورةِ الحقّ الى المستوى النَوعيِّ في عهودِ نضالِ الناس، قد افتتحت جبهاتٍ كثيرةً شكّلَت انتفاضةً نوعيّةً ركَّبَت للناسِ أجنحةً حوَّمَت بهم فوقَ ما كانوا يعتادون.فلا صقيعَ وحدةٍ إذا كانوا مع الله، ولا آثارَ ضيقٍ في نهرِأيامِهم، ولا إحراقَ بخّورٍ أمامَ لسعاتِ الأصنام.
القيامةُ أصلٌ حين تُدرَسُ درجةُ التّجاوزِ في اللّاهوت، وكذلك درجةُ التَّمدُّنِ في العقل. وإذا كان الخَلقُ توقيفاً آتاه الله للناسِ، وقَرَّ قرارُه به، فالقيامةُ تفسيرٌ لفصولِ الخلود، أو هي عهدُ إنعاشٍ لفيضِ عنايةِ اللهِ بنا. وليس غريباً أن تكونَ هذه العنايةُ قد تمَّت في ذلك العهد بالذّات !!! إنّ تَطبيقَ التسلسلِ النَّسَبيّ على نسيجِ الزَّمنِ، يُثبِتُ أنّ القيامةَ هي أَحدَثُ أُفولٍ لِتَوراتيّةِ الإله، وأَقدمُ أَملٍ لرجاءِ البشر.
القيامةُ ليسَت تَخمينيّة، مهما تعاملَ معها بعضُ المؤمنين بحريّةٍ شِعريّة، ومهما حاولَ البعضُ الذي يشكُّ بحقيقتِها، إلصاقَ المَعايبِ في حدوثِها، وإِحالَتَها الى الأساطير، أو الأوهامِ، أو الى طقوسِ العَرافة، لِتُنزَعَ عنها هالتُها. وبعيداً عن الإسترسالِ في تَكَلّفِ الحجّةِ، يُسأَلُ هذا البعض: إذا سلَّمنا بأنّ القيامةَ خُرافةٌ وليسَت جوهراً، فهل من خرافةٍ لا تنطوي على شيءٍ حقيقيّ ؟؟ فلا أحدٌ يتكلّمُ عن لاشيء. وإذا كانت من نَسجِ الخيال ولا ماهيّةَ لها، فهل يتخيَّلُ المرءُ من دونِ غاية ؟؟ في الخلاصة، لا شيءَ جديرٌ بالإيمان إلّا وله وجودٌ فِعليّ.
إنّ الإعترافَ بالقيامةِ هو علامةٌ عاطفيّةٌ لعرفانِ الجَميل لمَنْ احتفلَ بالعذابِ، واختارَ أن يوطِّنَ نفسَه في النّارِ، ليجعلَ فرحَنا طليقاً، ويُعيدَ لنا القيادةَ بنفسيّةِ الرّاعي لا بنفسيّةِ القطيع. من هنا، فالقيامةُ يستحيلُ تطابُقُها مع أيِّ نموذجٍ آخر، طالما أنه لا وجودَ لأيِّ نموذجٍ في الأصل، لأنّها مسرحُ عملٍ مُنَظَّمٌ لثوابتَ عقائديّةٍ متقدِّمة، تخترقُ ذهنيّةَ الخوفِ من الموت، الى مشروعِ الحقِّ بالتَنَعُّمِ بحياةٍ تَخَلَّصَت من دَفعِ أكلافٍ فادحة. أو بالأحرى، هي استقرارُ الطمأنينةِ في جَيبِ البقاء، وكأنّ يسوع مزجَ قيامتَه بفرحِنا، لكي يزولَ زَعَلُ الأرض، ويدومَ مشروعُ لقائِها مع الحقيقة.
يسوع… أيّها العازِفُ ترتيلةَ القيامة، نحنُ لا نزالُ نُطرَبُ بلَحْنِها النقيِّ حتى اليوم.