بقلم د. نبال موسى
الحديث عن الطائفية في لبنان حديث طويل لا ينتهي بمناسبة ومن دون مناسبة. ولعل جيل الشباب يعتقد ان هذه الطائفية حديثة العهد، لكنها في الواقع ليست وليدة اليوم ولا الأمس، إنها، مع المحسوبية و”الواسطة” دودة الفساد السامة التي ولدت مع ولادة لبنان الكبير أو الصغير كما تشاؤون، وهي لا تزال تنخر فيه حتى أصبح قريباً من الانكسار الذي لا التحام بعده. واليكم بعض النماذج.
عدت في تموز من العام 1974 إلى لبنان وانأ أحمل الورقة التي اسمها الدكتوراه والتي تخوّلني العمل في التدريس الجامعي، المنفذ شبه الوحيد للعمل في مثل هذه الحال. كان شقيقي قد سبقني بعدة سنوات بعد ما حصل على دكتوراه في الرياضيات والإحصاء ودخل بسهولة كأستاذ متفرغ في كلية التربية في الجامعة اللبنانية إذ أنه كان قد نال منحة من الجامعة لاحتلاله المركز الأول في جميع سنواته الدراسية. وكلية التربية هى لمن لا يعرف من اصدقائي غير اللبنانيين الكلية التي تخرج أساتذة التعليم الثانوي. لهذا السبب، كان من الطبيعي ان أتوجه بتقديم طلب العمل الى كلية التربية أولا خصوصاً وأنني كنت أعلم أن الكلية كانت تحتاج الى استاذ من اختصاصي. وهكذا كان، ومنحتني كلية التربية يومها خمس ساعات أسبوعيا وبقي عليّ البحث عن ساعتين في كلية الآداب كي احظى بدرجه استاذ متفرغ براتب شهري ثابت، إذ كان عدد الساعات الأدنى المطلوب للتفرغ هو سبع ساعات أسبوعيا.
قبل أن أعود إلى لب الموضوع، أعترف بأنني كنت مطمئناً على حصولي على التفرغ لان رئيس قسم اللغة العربية في ذلك الوقت الاستاذ أحمد أبو حاقة رحمه الله رحمة واسعة، كان قد وعدني بأنه إن لم أحصل على الساعتين المطلوبتين في كلية الآداب فهو سيعطيني ساعتين في كلية الفنون مخصّصتين (انتبهوا جيدا) لتدريس مادة “القراءات القرآنية” وهو يعرف أنني مسيحي لكنه كان قد علم من دفتر علاماتي في جامعة القاهرة انني كنت انال 18 على 20 في مادتي “القراءات القرآنية والتفسير”، وكانت ثقته بي كبيرة ولو من دون معرفة عميقة سابقة.
اجتمع مجلس الكلية الذي لم يكن شقيقي عضواً فيه لدرس ملفات طلبات التدريس المقدمة اليه. وقد أخبرني فيما بعد احد اعضاء المجلس عما جرى وهو ان أول ملف كان مصادفة لأستاذ مسيحي لم اعد اذكر اسمه، وتمت الموافقة عليه كأستاذ متفرغ. وللمصادفة ايضا كان ملفي هو الملف الثاني وتمت الموافقة عليه. وهنا هبّت احدى المدرسات وهي السيدة أمان ش … قائلة: اخذتم اثنين من المسيحيين، خذوا الآن مسلماً ! فدُهش الجميع من “أستاذة” جامعية تتفوه بمثل هذا الكلام الطائفي خصوصا وان المجلس كان يوافق حسب احتياجات الكلية وليس لأي اعتبار آخر. فتأملوا في الفارق بين عقلية رئيس القسم الاستاذ أبو حاقة وعقلية هذه السيدة الطائفية التي “كرمتها” منذ عدة سنوات “الحركة الثقافية” في أنطلياس كونها “المربية المعروفة” !!!!!
توجهت الى رئيس قسم اللغة العربية في كلية الآداب المرحوم الدكتور فيكتور الكك طالبا منه الساعتين المذكورتين الباقيتين. كان لطيفا جداً، لكنه أقسم بأعظم الايمان انه لا يستطيع وانه ولا يملك ساعة واحدة يمنحني إياها، مع أن احد زملائي هناك كان قد أبلغني بوجود عدة ساعات تنتظر من يتولاها. فشكرته وانصرفت.
كان المرحوم والدي على علاقة قديمة برئيس الجمهورية في ذلك الوقت سليمان فرنجيه فعرض عليّ زيارته ووافقت لعلمي ان لبنان للأسف بلد الواسطة بامتياز، تلك الواسطة التي من دونها لا يمكنك أن تقوم بأي شيء.
كان الرئيس فرنجيه يمضي نهاية الأسبوع في منزله في بلدة اهدن، وكنا نعرف أن صديقتنا انطوانيت القارح تتولى أموره الشخصية، فكلمناها ودبّرت لنا موعدا ذات يوم أحد الساعة الثامنة و 45 دقيقة قبل ان ينزل الرئيس من الطابق الاول الساعة التاسعة لاستقبال الناس. وهكذا كان، نزل الرئيس وكنا ننتظره مع أنطوانيت، فشرحت له الموضوع باختصار طالباً مساعدته لان رئيس القسم يقول انه لا توجد ساعات عنده، مع أن زملائي في الكلية يؤكدون انها موجودة. فأجابني رئيس الجمهورية حرفياً: ” أيه مين بدنا نصدّق؟” فأُسقط في يدي أمام هذه العبارة غير المستحبة، ولم أعرف بماذا أجيب. ثم التفت الرئيس نحو مرافقه العسكري الضابط ناصر الرهبان وطلب منه أن يسجّل الموضوع للبحث فيه، فشكرناه وخرجنا ولم نشرب القهوة على رغم إصرار المسكينة أنطوانيت التي فهمت كما فهمنا نحن أن الرئيس لن يفعل شيئاً وهو بالفعل لم يفعل أي شيء.
كان وزير التربية في ذلك الوقت المحامي الكتائبي المعروف ادمون رزق وهو ابن خالة زوجة خالي. فطلبت زوجة خالي من شقيقتها الكبرى التي كانت رفيقته في الدراسة أن ترافقني إليه لطلب المساعدة. وبالفعل زرنا معالي الوزير لكنه لم يبدِ أي تجاوب، ربما لأنني من منطقه الكوره وربما أكون في ظنه من الحزب القومي السوري المنتشر في هذه المنطقة والذي بينه وبين حزب الكتائب عداوة طويلة. ولعله فكّر انه بما ان رئيس القسم الدكتور الكك الكتائبي مثله قد قال لي (لا) فمعناها (لا) عند الوزير أيضاً!
أخيرا، قلت لابد من زيارتي عميدة كلية الاداب الدكتورة زاهية قدوره رحمها الله. شرحت لها الموضوع باختصار وأنني أطلب ساعتين فقط. سألتني: من أين أنت؟ قلت: من الكوره. قالت: وأين درست؟ قلت: الليسانس في جامعة القاهرة والدكتوراه في فرنسا. كانت المرحومة معروفة بأنها عروبية متحمسة وقيل لي “ناصرية”، فعندما سمعت أنني من الكوره (أهل الكوره الروم الأرثوذوكس عروبيون معروفون)، وأنني نلت الليسانس من القاهرة امسكت الهاتف وكلّمت رئيس القسم الدكتور الكك وطلبت منه الساعتين لي. و يبدو انه أجابها بأنه “لا يوجد”، فقالت له حرفياً : “شعّب، دبر حالك، بدي ساعتين للدكتور نبال موسى”، وأقفلت الخط. ( التشعيب يعني تقسيم الصف الى صفين أو شعبتين مما يخلق ساعات إضافية).
وهكذا، بفضل الدكتورة زاهية قدورة رحمها الله، وربما بفضل “عروبيّتي وانتمائي إلى الروم الارثوذوكس” نلت التفرغ للتدريس في الجامعة اللبنانية.
ترقبوا مقالا للإعلامي الدكتور نبال موسى كل يوم اثنين