بقلم د.نبال موسى
بينما يحل علينا شهر رمضان المبارك، تتسارع في الذاكرة في هذه المناسبة صور كثيرة وأحداث وحكايات وفيرة يكاد المرء لا يصدّق كيف حصلت، لكنها حصلت.
سبق أن قلت أنني كنت واحداً من اثنين أسسا إذاعة الشرق في باريس وساهم في إدارتها، لا بل ان الفكرة كانت في الأصل فكرتي، وسأعود إلى ذلك يوما ما عند الحديث عن نشأة الإذاعة.
لم نكن على استعداد تام في جميع الأمور والتفاصيل عندما أطلقناها رسمياً، لكننا كنا شبه مستعدين بعددنا الذي كان يساوي بالضبط عدد أصابع اليد الواحدة، وأردنا الاستفادة من زخم شهر رمضان والانطلاق في اول ايامه الموافق لأول حزيران من العام 1984.
قرأت يومها أنا المسيحي بيان الديوان الملكي السعودي ـــ الذي ما زلت أحتفظ به ـــ والذي أعلن بداية شهر رمضان في ذلك اليوم، وانطلقت الإذاعة من دون توقف بعد فترة طويلة من التجارب.
بعد أيام، تنبّهنا الى أنه ينقصنا مدفع رمضان والمسحراتي… وأردنا الاقتداء بما يحصل في لبنان، ولكن كيف العمل؟
كان أحد الزملاء يملك مسدسا يعمل بالغاز ويستخدم في الدفاع عن النفس، فقررنا استخدامه لتسجيل طلقة المدفع. كانت الاذاعة قبل حصولها على الرخصة تبث سرياً من غرفة صغيرة في إحدى بنايات أهم وأغلى شارع في باريس وأكثرها فخامة وبورجوازية وهي جادة فوش. فالبناية مخصصة للسكن، ولا يحق استخدام شققها لأي غرض آخر تحت طائلة العقاب.
أقفلنا كل شيء في الستوديو وفتحنا آلة التسجيل وأطلقنا طلقة من المسدس المذكور فاهتز كل ما في الستوديو بسبب حجمه الصغير وتسرب الصوت الى الممر ومنه الى الشقق المجاورة وخرج الجيران مذعورين يتساءلون عما يجري. فتدبرنا الامر بالتي هي أحسن قائلين إنها لمبة كبيرة انفجرت بسبب الحماوة ! وهكذا، ومنذ ذلك اليوم أصبح مدفع رمضان الاذاعي يزلزل أثير العاصمة الفرنسية كل يوم، وكنا كلما سمعناه نموت من الضحك لأننا نتذكر كيف تمت العملية.
بعد ذلك بايام، عرض علينا الفنان الصديق المطرب وعازف العود والكمان محمد عيسى الذي كان يرافقني بعوده في برنامجي الأسبوعي الذي كنت استضيف فيه الفنانين العرب، عرض ان يسجل لنا نداءات المسحراتي، فوافقنا فورا، ولكننا كنا نحتاج الى طبلة. وبدلا من انتظار إحضار طبلة من إحدى الفرق الموسيقية التي كانت تعمل في أحد المرابع الليلية ، اقترح محمد عيسى ان يقوم بالتطبيل على “طنجرة”، فأحضرنا له “طنجرة” وبدأ التسجيل. لكن الصديق محمد كان كفيفاً وكان النص طويلاً، وبالتالي لم يكن باستطاعته قراءته، فكان يحفظه ثم ينسى احدى الجمل أثناء التسجيل، فنعيد التسجيل من جديد. وعندما تكرر ذلك اكثر من مرة، غضب الصديق محمد من نفسه واعتذر عن عدم إتمام المهمة. وهكذا حُرِم المستمعون في تلك السنة من المسحراتي ومن: “يا نايم وحّد الدايم” الخ…
***
بعد حوالي اسبوع من انطلاق الاذاعة، غادرت عملي في مجلة المستقبل ووصلت الى الستوديو مساء لتقديم أحد برامجي وكان يومها “فوازير رمضان”، فوجدت على لوحة الحائط المخصصة للتعليمات هذا الأمر من مموّل الإذاعة: ” بعد إذاعة ما تيسّر من القرآن الكريم، يجب على المذيع قراءة هذا الدعاء: ” اللهم (لبّى ) هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة …” الى آخر الدعاء المعروف. فجنّ جنوني وسألت عما إذا كان الدعاء قد أذيع بهذا الشكل فقيل لي نعم، فمزّقت الورقة وقلت لهم: يا لخيبتكم! ألا تخجلون من أنني أنا المسيحي أصحّح لكم الدعاء ؟ فالدعاء يقول: اللهم (ربّ) هذه الدعوة التامة الخ، وكتبت ورقة جديدة بكامل الدعاء مصحَّحا ومشكّلاً كي لا يخطيء أحد في نطقه بعد ذلك.
ثم أدركت، كمدير للبرامج، أنه لا بد من تخصيص برنامج للرد على أسئلة المستمعين الدينية من أبناء الجالية العربية ـــ الإسلامية الكبيرة الموجودة في باريس وضواحيها فقمت باتصالات عدة وعثرت على شيخ تونسي قام بهذه المهمة وأطلقت على برنامجه إسم: “انت تسأل والإسلام يجيب”. وهكذا كنا نطوّر عملنا يوما بعد يوم بإمكانات ضئيلة جداً حتى جاء التمويل وكبرت الإذاعة وتضخّمت، لكنني كنت قد غادرتها لأسباب لا مجال لذكرها الآن. إذاعة الشرق لا تزال تبث في فرنسا لكن تأثيرها لم يعد كما كان.
طرائف كثيرة عشناها وحوادث لا تنسى حصلت معنا قد يأتي يوم لتسجيلها والكشف عنها.
رمضان كريم.
ترقبوا مقالا للإعلامي الدكتور نبال موسى كل يوم اثنين