بقلم د.نبال موسى
في زمن التقاعد أو المعاش كما يقول إخواننا المصريون، ليس أمامي الكثير مما يمكن أن أقوم به. أقرأ صحف العالم وأشاهد التليفزيون وشيئاً من كتاب حتى تزوغ عيناي فأنعطف الى الواتسأب وفايس بوك أشاهد في الأول عشرات الفيديوهات اللطيفة أحيانا وغير اللطيفة غالباً التي يمطرني بها الأصدقاء والتي لا بد من التعليق عليها ولو بكلمة ” إكراماً ” ! وأطلع في الثاني على ما هب ودب من الغث والسمين مما فاضت به قرائح ” الأصدقاء ” الذين لا بد أيضاً من كتابة كلمة أو سطر تعليقاً على ما كتبوه وإلاّ … ولكن، لحسن الحظ، هناك عدد منهم استمتع بما يكتبه ويغنيني. ثم أخرج الى حديقتي محاولا أيجاد شيء أقوم به، أو تحضير الأرض لزراعة خضروات الربيع، فيداهمني التعب بسرعة فألجأ الى المطبخ، وهات صينية كفتة وراء صينية كبة… وهكذا دواليك.
اليوم قررت كسر هذا الروتين، فنزلت الى الطابق السفلي من منزلي وهو الذي اصبح مع مرور الزمن وتراكم الأشياء والمحفوظات كمغارة على بابا أحاول ترتيب ما يمكن ترتيبه ورمي ما لم يعد له لزوم من أوراق وملفات وحاجيات. وهكذا، وقعت على لوحة زيتية منسية ومرمية تحت عشرات الكتب والملفات لا بد أن أحكي لكم قصتها.
في أحد الايام من بداية الثمانينات على ما أظن، زارنا في مجلة “المستقبل” الباريسية الشهيرة التي كنت أعمل فيها الصحفي والإذاعي السوري المعروف جداً من أبناء جيلي عبد الهادي البكار. وعبد الهادي البكار هو واحد من ثلاثة مذيعين سوريين (مع نزار عقيل ومازن النقيب) كانوا نجوم إذاعة “صوت العرب من القاهرة” أيام المذيع الشهير جدا أحمد سعيد في عهد الزعيم جمال عبد الناصر في الستينات قبل النكسة. وكان عبد الهادي صاحب صوت إذاعي جميل وقوي، وإلقاء جيد وحماسة ليس بعدها حماسة في تجييش الجماهير العربية ضد العدو الصهيوني و”الأنظمة العربية الرجعية” و”أذناب الإستعمار” ! وكنت في السابعة عشرة تقريباً من العمر، وكما مئات الآلاف من الشباب العرب، كنت أترقّب نشرات أخبار ” صوت العرب” التي أثّرت في شبابنا وحسّنا الوطني أيما تأثير.
بعد النكسة، عمل عبد الهادي البكار في الإمارات العربية المتحدة مستشارا إعلامياً ثم عُيّن ملحقاً إعلامياً في سفارة الإمارات في موسكو، وكان يوم زارنا قادماً منها. تكررت الزيارات وتوطدت علاقته بالزميل شكري نصرالله الذي كان سكرتيراً للتحرير بيده الحل والربط في كثير من الأمور في المجلة، وأظن انه كتب شيئا في “المستقبل”.
وذات يوم، جاء إلى شكري وبيده لوحة زيتية من رسمه عنونها “الكرسي الخيزران”، وفيها كرسي من نوع الكراسي الكلاسيكية المعروفة في مقاهي ومطاعم بلاد العرب في ذلك الوقت وربما حتى الآن وأهداها إليه. لكن الكرسي لم تبق في مكتب شكري أكثر من نصف ساعة. فما إن غادر عبد الهادي حتى همّ “أبو الشكر” ــــــ كما كنا نسميه ـــــ لرميها في سلة المهملات إذ لم تعجبه بتاتاً.
وفجأة، لا أدري ما الذي دفعني يومها الى أن أقول له: لا ترمها، أنا أحتفظ بها. شعور غريب تملكني وأنا أرى شكري يهم لرمي لوحة عليها اسم شخص تابعته طيلة أعوام الشباب وبداية تكوين الشخصية السياسية. خلته كأنه يرمي جزءاً من شبابي فحلت دون ذلك، وأخذت اللوحة.
و”مرّت الأيام” كما تقول أم كلثوم وغابت اللوحة في غياهب الطابق السفلي من منزلي في “مغارة علي بابا” إلى أن اكتشفتها اليوم بعد حوالي 38 عاماً.
لم أعد أذكر تفسير عبد الهادي البكار للوحته، وأسباب رسمه الكرسي، وربما من السهل الآن تفسير ذلك، فعقدة الكرسي عقدة عربية قديمة مستفحلة لا دواء لها، ولا يضاهيها إلا مرض نكران الجميل. ونكران الجميل هذا ظهر لي في كلام عبد الهادي البكار. فقد حكى لنا حكايات عرفها أو شهدها عن الرئيس جمال عبد الناصر لا تليق لا بالرئيس ولا بصاحب الحكاية الذي كان مكرّما معزّزا في ضيافة القاهرة.
من ضمن ما حكى أنه رافق كصحفي الزعيم عبد الناصر عندما زار دمشق في شباط عام 1959 للاحتفال بالوحدة، تلك الزيارة التاريخية التي خرج خلالها ملايين السوريين للترحيب بعبد الناصر …
قال أن الرئيس صعد الى أحدى الشرفات ليلقي خطابا وكان عبد الهادي يقف وراءه يحمل الميكروفون لينقل الخطاب مباشرة على الهواء. وفجأة فسا الرئيس على حد قول عبد الهادي الذي فسّر ذلك بأن الرئيس يفسو على الجماهير… وهو تفسير يمثل قمة التأويل الخاطيء ونكران الجميل.
فسبحان مغيّر الأحوال.
ولا تزال “الكرسي الخيزران” مهدّدة مجدّداً بدخول سلة المهملات ذات يوم؟
ترقبوا مقالا للإعلامي الدكتور نبال موسى كل يوم اثنين