بقلم د.نبال موسى
في العام 1980 على ما أظن، دُعيت مع مجموعة من الصحافيين العرب من قبل نقابة صانعي الساعات في سويسرا لافتتاح وحضور معرض مدينة ” بال ” الدولي الشهير للساعات والمجوهرات. وللعلم، فإن نقابة صانعي الساعات هي أقوى النقابات في سويسرا وأكثرها غنى وتأثيراً اقتصاديا واجتماعياً، وكلمة واحدة من نقيبها تهز الاتحاد السويسري بكامله.
استُقبلنا استقبالا ممتازا، وأُنزِلنا في أفخم فنادق المدينة، وأقيم لنا عشية الافتتاح حفل عشاء حضره النقيب وأعضاء النقابة، وشعرنا بالفعل بأهمية ما نمثله وخصوصا بأهمية ما تمثله الاسواق العربية في ذلك الوقت بالنسبة لمبيعات الساعات السويسرية، فقد كانت خزائن العرب في ذلك الوقت تعج بالبترودولار، وكانت التسلية الوحيدة قبل ـــــ اكتشاف التسليات الأخرى ـــــ هي “التسوّق” وشراء الفاخر من المنتجات…
بعد ان انهى نقيب الصانعين كلمته الترحيبية قال: أعذروني أيها الضيوف لأنني لن أكون معكم غداً على الغداء، سيكون معكم زملائي، لأنني غدا لا بد أن أحتفل بذكرى عزيزة جدا على قلبي، كما لا بد أن أكون وحيداً. استغربنا هذا الكلام الغامض، ولعلّه شعر من تقاسيم وجوهنا هذا الاستغراب فقال سأخبركم: “منذ أن كنت صغيرا، كان والدي يصطحبني كل سنة لزيارة أول أيام هذا المعرض. وعندما كان يحين وقت الغداء، وبما أننا لم نكن ميسوري الحال لنتغدّى في أحد المطاعم، كنا نأكل سندويشاً من “الهوت دوغ” مع قليل من الماسترد (الخردل) ونشرب زجاجة عصير. وكنا في غاية السعادة. نعم، كان ذلك من الأيام السعيدة جداً في طفولتي وصباي. وعندما كبرت ودخلت هذا العالم وتولّيت هذا المنصب، آثرت على نفسي أن أتغذى وحدي في يوم الافتتاح ما كنت أتغداه مع والدي، تكريماً لذكراه ولتضحياته التي أوصلتني الى ما أنا عليه.
تخيّلوا، هذا الرجل الذي تنهال عليه في يوم الافتتاح بالذات عشرات العروض والدعوات الى هذا أو ذاك من الأجنحة أو المطاعم الفاخرة في المعرض أو خارجه، كان يرفض كل ذلك ويشتري سندويشة الهوت دوغ وزجاجة العصير نفسها ويأكل ويشرب وهو يلف في ردهات وأجنحة المعرض مستذكراً ذكريات طويلة، وفاءً وتخليدا لذكرى والده.
ترى، هل ما زال في أيامنا مثل هذا النوع من الرجال؟
في اليوم الثاني زرنا مصنعين من مصانع الساعات: لونجين ورادو، ورأينا عند لونجين بالذات عشرات النساء يعملن في تجميع الساعات يدوياً وبدقة متناهية. أما في اليوم الثالث فقد نظمت لنا النقابة رحلة إلى الجبال السويسرية، وضمّت ألينا عددا من الصحافيين الاجانب من بينهم بعض اليابانيين المتقدمين بالسن.
أخذونا الى مكان لم أعد أتذكره، وهناك أركبونا قطارا صغيراً يسير على جنازير، سرعان ما أدخلنا في نفق لم نخرج منه بعد أكثر من ثلاثة أرباع الساعة إلا ونحن على علوّ أربعة آلاف متر عن سطح البحر في مطعم وحيد بُني على قمة هذا الجبل، تكسوه الثلوج، ويصفّر فيه الهواء من كل جانب.
تقدمنا مباشرة نحو النوافذ لنتمتع من هذا العلوّ الشاهق بمناظر الجبال السويسرية الرائعة التي تكسوها الثلوج، ولنأخذ بعض الصور. ولم تمض عدة ثوان حتى سمعت ورائي “خبطة” قوية، فنظرت وإذا بي أرى رجلا يابانيا ممددا على الارض فاقدا الوعي. أسرعت نحوه وجثوت على ركبتيّ وبدأت بتدليك قلبه. ولم تمض ثوان حتى جاء مسعف مع جهاز أوكسيجين واهتم بالأمر، فاستفاق الزميل الياباني، ثم أخذ لأكثر من دقيقة بدت لي وكأنها دهر يشكرني بحرارة على الطريقة اليابانية المعروفة بانحناءة الرأس الى الأمام وضم اليدين الى الصدر لدرجة انني أشفقت عليه. وكنت أرد عليه بابتسامة عريضة تغنيني عن اللغة اليابنية أو الانكليزية اللعينة التي أجهل.
لم تفارقه بعد ذلك كمامة الأوكسيجين. ففي مثل هذا الارتفاع الشاهق تقلّ كمية الاوكسيجين مما يؤثّر عند بعضهم، خصوصا عند المتقدّمين في العمر، على التنفس والقلب، ويؤدي الى ألم في الرأس.
انتقلنا الى مائدة الغداء فجلست الى جانبه ولم أكن أعرف من هو. وتحادثنا بواسطة زميل يتحدث الانكليزية بطلاقة. سألني عن بلدي وعن مجلتي وأين توزع وكم رقم توزيعها… نفخت الرقم قليلا وقلت له 200 ألف نسخة. وسألته عن نفسه فقال إنه رئيس تحرير صحيفة ” أزاهي شيمبوم” التي نسمع بها وهي توزّع 12 مليون نسخة يوميا ويعمل فيها 3000 شخص! شعرت بالإحراج والخجل، وقلت في نفسي: سبحان مدبّر الأحوال! هذه الصحيفة توزّع وحدها أضعاف ما توزعه جميع صحف ومجلات العالم العربي “من المحيط الهادر الى الخليج الثائر” ! مع أننا على ما يُقال ” أمة إقرأ ” !
“أمة إقرأ ” هذه ” فطست” غالبية صحفها ومجلاتها والباقي في الحضيض وغرف العناية فوق الفائقة. أهم صحيفة في لبنان بلد الصحافة والقراءة لا تطبع أكثر من خمسة آلاف نسخة ! وأهم صحيفة في العالم العربي ( 126 مليون نسمة) لا يتجاوز طبعها 50 ألف نسخة وتعيش على ” المصل” الذي تضخّه دولتها.
طبعاً، لأسباب هذا الانحطاط قصة طويلة قد ياتي دورها ذات يوم. شعوبنا تمر بمرحلة أكثر من خطيرة، مرحلة الخبل الفكري والعقلي، مرحلة أفراغ الدماغ من كل ما يزعج الاهتمام ببرامج هيفا وهبي وليلى عبد اللطيف، ومقدّمات نشرات أخبار التليفزيونات التي تنضح سماً وسباباً، والمسلسلات التركية والأراكيل على نكهة التفاح الكيميائية المسرطنة … بانتظار “غودو” الذي لن ياتي!
ترقبوا مقالا للإعلامي الدكتور نبال موسى كل يوم اثنين