تنتشر في بلاد الغرب في ميدان النشر والكتابة ظاهرة يطلقون عليها بالفرنسية كلمة ” نيغر” أي “عبد” بالعربية، وهي مصطلح قديم يطلق على كاتب أو روائي أو مؤلف يكتب رواية أو كتابا في ميدان معيّن لصالح شخص آخر، على أن يضع الشخص الآخر اسمه عليه كمؤلف، ويبقى الأمر سرياً، والمؤلف الحقيقي كأنه لم يكن. هذا المصطلح لم يعد مستخدماً لبشاعته، وتم استبداله مؤخراً بكلمة ” ريشة “، فأصبحوا يقولون: فلان كان ريشة فلان أو هو ريشة فلان…
ومن المعروف في هذا المجال استعانة الكسندر دوما الأب مثلا بمؤرخ اسمه أوغست ماكيه، وألفونس دوديه ببول أرين، وهناك كلام من هذا القبيل حول موليير وشكسبير وغيرهما، وحفل العصر الحديث بكثير من هذه الظاهرة في الميدان الأدبي. وفي الميدان السياسي معروف مثلا أن محمد حسنين هيكل كان يكتب خطب عبد الناصر والسادات قبل ان يحل محلّه أحمد بهاء الدين وغيره. وفي فرنسا مثلا كان بومبيدو يكتب خطب ديغول وكريستين ألبانيل خطب شيراك وهنري غينو خطب ساركوزي الخ … والأمثلة بالمئات في ما يتعلّق بمذكرات الفنانين والممثلين وغيرهم.
أما في صحافتنا العربية فحدّث ولا حرج. كم من ” رئيس تحرير” مثلاً لم يكتب في حياته إفتتاحية واحدة لمجلته أو مطبوعته! لا نريد التشهير خصوصا وأن كثيرين منهم توفّاهم الله، ولكن بعض الأمثلة معروفة جدا في الوسط المهني. فمثلا كان يكتب افتتاحية مجلة “الوطن العربي” إما غالي شكري أو غسّان الأمام رحمهما الله، ولم يكتبها ولا مرة واحدة صاحبها ورئيس تحريرها وليد أبو ظهر الذي لم يكن يحمل أي شهادة ولا يعرف من الكتابة إلا كتابة توقيعه على دفتر الشيكات. والأمثلة كثيرة في مجلات أخرى.
وقد اشتهرت في ثمانينات القرن الماضي في باريس ـــــ ولعلّها لا تزال منتشرة ـــــ كتابة رسائل الدكتوراه وبيعها لطلبة جاؤوا من لبنان وغيره من الدول العربية باحثين عن أي طريقة للحصول على اللقب السحري: ” دكتور” ! ولهذه القضية حكاية قد يأتي دورها ذات يوم.
في نهاية السبعينات أو بداية الثمانينات، أخذ يتردد على مجلة المستقبل التي كنت أعمل فيها شاب لبناني طموح قال انه يحب الصحافة ويتمنى لو يكتب شيئا في هذه المجلة التي كانت أهم مجلات العالم العربي على الإطلاق، لكنه يدرس الحقوق ولا يعرف شيئا عن الصحافة، ولا يجيد حتى الكتابة الصحيحة باللغة العربية !!! كان الإعلام هاجسه، وكان يريد أن يظهر كإعلامي في بعض الاوساط اللبنانية والعربية مهما كلّف الثمن.
في أحد الأيام، سألني إن كنت أوافق على تصحيح وتوضيب موضوع عن الإعلام فيما لو كتبه. فأدركت انه من الأسهل ان اكتبه أنا من ان أصححه بالشكل الذي تخيّلت أنه سيصلني عليه. فعرضت عليه أن لا يتعب نفسه، بل سأكتبه أنا على أن يقول لي ماذا يريد أن يكتب وفي أي موضوع، على أن ينشره باسمه. ففرح فرحا كبيراـ لا بل عرض عليّ ان يدفع لي ثمنه وثمن غيره إذا وافقت.
كنت في ذلك الوقت في الثلاثين من العمر، كانت باريس تفتح لنا ذراعيها وكنا نسهر ليلياً مع شلة من الزملاء الشباب العزاب في المطاعم والنوادي اللبنانية أو العربية حيث “الطقش والفقش” وخلافهما! وبالتالي كان الراتب بالكاد يوصلنا الى آخر الشهر. فوافقت على العرض وعلى هذا المصدر المالي الجديد الذي سيسمح لي وللشلّة بمضاعفة سهرات الانشراح وزيادة الليالي الملاح.
كتبت له أول موضوع إعلامي ونشر باسمه على صفحتين في “المستقبل”. ويبدو أن القصة أعجبته بعد أن تلقّى التهاني الكثيرة، فتمنى عليّ الاستمرار في هذه الصيغة. وكرّت المواضيع.
كان الشاب المذكور كثير الأسفار، وكان يتصل بي هاتفياً خلال سفره ويسالني قبل يوم او يومين من صدور المجلّة: “ماذا كتبت لي هذا الأسبوع، كي أستطيع الإجابة إذا سألني الأصدقاء عن موضوعي المقبل؟” فكنت أخبره بالخطوط العريضة.
وفي أحد الأيام، دخل مكتبي قلقاً وفي يده رسالة مدّها إليّ قائلاً: تفضّل، هذه رسالة من المعهد العالي للصحافة في الرباط يدعوني فيها للسفر وإلقاء محاضرة عن الإعلام في المعهد، ما العمل؟ فأجبته فوراً: بسيطة، أكتب لك المحاضرة وتسافر وتلقيها. فقال: وماذا أفعل بالأسئلة التي ستطرح عليّ؟ فقلت: أنت الآن “خبير أعلامي”، عليك أن تتصرّف أو تعتذر لسبب أو لآخر. وبالطبع، أعتذر عن السفر تفاديا للفضيحة. يومها، أدركت أنه يجب وقف هذه المهزلة فتوقفت عن كتابة هذه المواضيع و”تحرّرت ” من … “العبودية”!
ترقبوا مقالا للإعلامي الدكتور نبال موسى كل يوم اثنين