بقلم الدكتور نبال موسى
ككل صحفي، واجهت خلال حياتي المهنية الطويلة عددا من المواقف المحرجة التي قد لا تتجاوز مدة واحدها عدة ثوان، لكنه يلقي على النفس ثقلاً مزعجاً يربك المرء ويشلّ قدرته على حسن التصرف، وخصوصا عندما يتعلق الأمر بمسؤولين كبار لا تربطك بهم علاقة تسمح لك بتصحيح الأمور أو الحوار أو الرد.
سأكتب عن موقفين محرجين، الأول، مع الأمير عبدالله بن عبد العزيز رحمه الله، وكان يومها ولياً للعهد.
في أول عهد الرئيس الاشتراكي فرانسوا ميتران، انفتح الاشتراكيون كثيراً على السعودية وعلى العالم العربي بشكل عام، لدرجة ان اول زيارة قام بها الرئيس ميتران الى الخارج كانت الى السعودية، طلبا للعقود والصفقات.
في بداية ذلك العهد، وردا لزيارة ميتران هذه جاء الأمير عبدالله بن عبد العزيز ـــ أظن في العام 1984 ـــ في زيارة رسمية الى باريس واستقبل استقبالا لا مثيل له. فقد كان الملك فهد، رحمه الله، مريضاً، وكان الأمير عبدالله هو الذي يدير تقريبا دفة البلاد والملك الفعلي إذا جاز التعبير.
في ذلك الوقت، كانت إذاعة الشرق في باريس التي شاركت في تأسيسها في العام نفسه، كانت مازالت في بداياتها وضمن الاذاعات الحرة التي تنتظر صدور قانون تنظيم البث لتأمل الحصول على رخصة رسمية بعدما حرر الاشتراكيون البث الإذاعي وسمحوا لمن يشاء بافتتاح اذاعة وفق قوانين جديدة كانت قيد الدرس. كنا في ذلك الوقت نبث على موجة قدرها 106 فاصل 6 وهي موجة ممنوع استخدامها لأنها تقع ضمن عدد من الموجات المخصصة لاتصالات الجيش الفرنسي، لكنها غير مستعملة لأن الجيش كان قد بدأ يستخدم تقنية جديدة ونوعا آخر من الموجات اللاسلكية مع احتفاظه بمنع استخدامها. وكنا خائفين من أن ينقض علينا الجيش في ليلة ليلاء ويحجز الاجهزة ويرمينا في السجن.
أقامت الحكومة الفرنسية حفل استقبال للأمير عبدالله ودُعيت شخصياً إلى هذا الحفل. تكلمت مع سفير المملكة لدى فرنسا الشيخ جميل الحجيلان الذي كان يقدّرني ويودّني وكان يساعدنا في دعم الحصول على رخصة للإذاعة حول امكانية إجراء لقاء خاص مع الأمير الزائر واحتمال تمرير رسالة الى الفرنسيين بخصوص الرخصة. فقال لي إنه سيقدمني أثناء الاستقبال الى الأمير بشكل يلفت أنظار المسؤولين الفرنسيين إلى أن السعودية تدعم وتتبنى الإذاعة.
وصلت الى مكان الحفل وكان الطابور الذي ينتظر للسلام على الأمير بطول مائة متر. شخصيات فرنسا السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية والإعلامية والفنية … كلها كانت هناك. فقد حشدت فرنسا كل “قواها” للترحيب بالأمير الضيف. وكما تجري الأمور في مثل هذه الحفلات، يتقدم المدعو نحو المعرِّف الذي يسمّيه الفرنسيون ” النبّاح” لأنه يردد بصوت عال اسم المدعو الذي يتقدم للسلام كي يسمعه الضيف وباقي المستقبلين ويعرفون على من يسلّمون.
جاء دوري أخيراً، فقلت للنبّاح: “نبال موسى، مدير إذاعة الشرق في باريس”، فكرّر الرجل بصوت عال ما قلته وتقدمت للسلام على السفير ثم الأمير وباقي المسؤولين، وإذا بوزير الدفاع الفرنسي شارل هيرنو الذي كان على بعد حوالي ثلاثة أمتار مني واقفا في صف الوزراء المستقبلين، إذا به يصرخ: ” آه.. هذا أنت إذاعة الشرق التي تحتل موجة الجيش؟ ” وإذا بالجميع، وزراء وشخصيات، يحوّلون أنظارهم نحوي ليستطلعوا من هو هذا الرجل الذي يحتل موجة الجيش ويستدعي هذه الصرخة من وزير الدفاع وفي هذا الحفل…، وإذا بوجهي يصبح كحبة البندورة من الخجل والإحراج.
كل هذا في أجزاء من الثانية. سلّمت على الشيخ جميل الذي قدّمني للأمير عبدالله مع ابتسامة عريضة وبشكل لطيف مادحا ما ليس فيّ قائلاً: الدكتور نبال من كبار الصحافيين العرب هنا وهو صديق للمملكة، فابتسم لي الأمير ورحّب بي، ثم تابعت السلام على رئيس الوزراء ووزير الإقتصاد وأنا أفكر كيف سأسلّم على وزير الدفاع عندما أصل اليه، وماذا سيقول لي وكيف سأرد…لكنه كان لطيفاً وسلّم عليّ بابتسامة عريضة من دون أية كلمة، فارتحت ورحت مباشرة أبحث عن شربة ماء أبللّ بها حلقي الذي جف. وأعتقد أنه فهم الرسالة التي تلقاها الجميع بفضل الشيخ جميل، وفهم الفرنسيون فيما بعد ان الاذاعة تخص السعودية ومرضيّ عنها منها.
ودهشت يومها من أن وزير الدفاع يعرف الإذاعة ويعرف أنها تبث على موجة الجيش وهو تفصيل صغير بالنسبة لمشاغل وزير دفاع دولة مثل فرنسا، لكن دهشتي زالت فيما بعد لأنني ظننت أن الوفد السعودي قد يكون تحدث مع المسؤولين الفرنسيين عن الإذاعة ورخصتها. وما جعلني أظن ذلك هو أنني عندما كنت قد زرت قبل ذلك بأسابيع وزير الإعلام السعودي في ذلك الوقت علي الشاعر في الرياض بخصوص دعم الإذاعة وعدني بأنه سيتكلم قريباً مع المسؤولين الفرنسيين عند تجديد عقد صيانة شبكة الكهرباء السعودية بما يعني: التجديد مقابل الرخصة. فهل حصل ذلك بالفعل؟ الله أعلم.
ولقصة الإذاعة ونشأتها مقال مطوّل في يوم من الأيام.
ترقبوا مقالا للإعلامي الدكتور نبال موسى كل يوم اثنين