بقلم الدكتور نبال موسى
في صيف العام 1996 ذهبت مع العائلة لقضاء إجازة الصيف في لبنان. كنت في ذلك الوقت رئيساً لتحرير مجلة اقتصادية تصدر في باريس وتوزع في الدول العربية اسمها “تجارة ومال” لصاحبها جورج عازار الذي كان على علاقة قوية ببعض أركان النظام في سوريا ومنهم علي دوبا، الرجل الثاني في البلاد، وبهجت سليمان الرجل القوي الذي كان رئيس المخابرات العسكرية في ذلك الوقت إن لم أكن مخطئاً، وغيرهما.
ذات يوم أثناء الإجازة، اتصل بي جورج ودعاني مع العائلة لزيارة دمشق بصحبته وصحبة زوجته، فوافقت بكل سرور ودعوت شقيقي طارق الذي كان هو أيضاً في إجازة في لبنان لمرافقتنا، وتوجهنا في سيارتين الى الشام.
مررنا على الخط العسكري، فجورج كان يحمل تصريحاً من الرئيس حافظ الأسد شخصياً رأيته بأم عيني يخوّله دخول سوريا من دون أي إجراءات. تجوّلنا في دمشق ثم تناولنا طعام الغداء في مطعم على بردى مشهور بكبابه، وحتماً بأراكيله لأنني دهشت عندما رأيت فيه أكثر من 500 ” أركيلة” تنتظر من “يؤركل”، منها الصغير ومنها الكبير، بمختلف الأشكال والألوان، ومزركشة بالخرز والصدف والشراريب….
ثم بتنا ليلتنا في فندق فاخر لم أعد أذكر اسمه بعد حفل عشاء دعا اليه جورج عددا من اصدقائه السوريين وأظن ان بعضهم كان يعمل في مكتب علي دوبا. كان الفندق قريبا من بناية من عدة طوابق، وكان جورج يشير بيده بينما نحن نتناول طعام العشاء في الحديقة الى أحد الطوابق ويقول لي: هناك مكتب علي دوبا، أنظر أنه مضاء، أنه يعمل حتى في الليل. وكنت أنا أستمع وألزم الصمت لأنني كنت اكتشفت في هذا الفندق شيئا غريباً.
كنت اسمع ان المخابرات المصرية هي من أقوى المخابرات في العالم، لكنني في ذلك المساء تأكدت من أن دقة المخابرات السورية ليس لها مثيل.
كنت طلبت لعائلتي ثلاث غرف، واحدة لي ولزوجتي، والثانية لشقيقي، والأخيرة لبنتيّ. لكن موظف الاستقبال ( من المخابرات حتما) لم يسلمنا المفاتيح قبل أن يعرف في أي غرفة سينام كل واحد منا. قلت له: هات المفاتيح ونحن نتصرّف ونتوزّع الغرف، فأصر على معرفة من سينام في الغرفة رقم كذا والغرفة رقم كذا الخ.!!! فرضخنا، وهل كان بإمكاننا أن نرفض؟ لعلّ ذلك التصرف سببه أن زوجتي فرنسية وكلنا نحمل جوازات فرنسية! وكان لا بد له أن يعرف على أي غرفة سيتنصّت. على كل حال، حرصت في تلك الليلة على التنبيه على الجميع بأن لا يتفوّه أحد بكلمة واحدة لا في السياسة ولا في الدين ولا في انتقاد اي تصرّف. فمن يدري، ربما تملأ الغرف ميكروفونات مخفيّة. وعندما حدثت جورج عازار بما حصل أفهمني أنه ” لا حول ولا قوة…” هذه هي الإجراءات الأمنية.
المهم، في صباح اليوم التالي توجهنا لزيارة قرية معلولا الشهيرة والفريدة في العالم حيث لا يزال أهلها حتى اليوم يتحدثون باللغة الآرامية، لغة السيد المسيح، والمعروفة بديرها وكنائسها الأثرية المبنية في تجاويف الصخور. بقي جورج في العاصمة لإنهاء بعض أعماله، وجاءت معنا زوجته البولندية التي أحرجتنا كثيراً لأنها كانت ترتدي في حرّ آب بنطلونا قصيرا كان يلفت الأنظار والنظرات المستهجنة أينما حللنا.
وصلنا الى معلولا وتوجهنا نحو ديرها الشهير مشياً على الأقدام بعد أن أوقفنا السيارتين بعيدا لأن طريق السيارة لا تصل الى الدير والكنائس الأثرية. ولا أريد الاستطراد هنا الى ما فعله الإرهابيون الدواعش عندما احتلوا معلولا من تدمير في الدير والكنائس العديدة وخطف الراهبات والاعتداء عليهن، فقد استفاضت في ذلك وسائل الاعلام.
في الطريق، تجمّع حولنا بعض الصبية وراحوا يتكلمون معنا ثم سأل أحدهم شقيقي طارق: لوين رايحين؟ لا أدري كيف خطر على بال شقيقي هذا الجواب إذ قال له مازحاً: أنا الخوري الجديد القادم إلى الدير كي أتسلم مهماتي. وفجأة، اختفى الأولاد. توقفنا في الطريق لأخذ بعض الصور التذكارية لبعض البيوت القديمة وللدير من بعيد، وبعد حوالي ربع ساعة وصلنا الى أول ساحة الدير فرأينا عددا من الراهبات وقد وقفن كما يقف حرس الشرف في المطار عند استقبال الرؤساء في صف واحد وكأنهن في حالة استعداد لاستقبال شخصية ما، كما لمحنا مجموعة الصبية موجودة هناك.
اقتربنا من الراهبات وألقينا التحية مستغربين وقفتهنّ، فإذا بأحد الصبية يقول بصوت عالٍ متوجّهاً نحو الراهبات: هذا هو الخوري، مشيراً الى أخي. هذا هو؟ فهرولت إحدى الراهبات نحو الولد وكأنها تريد تأديبه على هبله وجهله وعلى ما تسبب كلامه من إزعاج مجاني لهنّ، لكنه فرّ كالغزال المذعور.
تحدثنا مع الراهبات وأخبرناهنّ بما قاله شقيقي مزاحاً، وكم كانت المفاجأة غريبة إذ علمنا منهنّ أن الدير ينتظر بالفعل في ذلك اليوم كاهنا جديداً سيصل من دمشق وقد اعتقدن أنه وصل بناء على كلام الأولاد، فاصطففن لاستقباله والترحيب به. فضحكنا جميعا واندهشنا لهذه المصادفة النادرة. وسألت أخي، الاستاذ الجامعي المتخصص في مادتي الإحصاء وعلم الاحتمالات، عن نسبة احتمال حصول هذه المصادفة فقال انها نسبة واحد على عدد لا حدود له…
انتهينا من الزيارة حوالي الواحدة وانطلقنا نبحث عن مطعم. لكن، تخيّلوا، لم يكن هناك أي مطعم في هذه القرية السياحية الفريدة في العالم التي يزورها السياح من كل انحاء المعمورة. فاضطررنا للتوقف في طريق العودة الى دمشق عند ملحمة يعمل صاحبها ما نسمّيه ” لحم بعجين” أو “صفيحة”، فأكلنا، لكن لا أدري ما الذي أصابنا وما الذي كان في ما أكلناه، فلم نهضم ما أكلناه إلا مساء اليوم التالي ؟!
ترقبوا مقالا للإعلامي الدكتور نبال موسى كل يوم اثنين