بقلم الدكتور نبال موسى
في العام 1992 على ما أظن، جاء الأمير صباح الأحمد الصباح، الذي أصبح فيما بعد أمير دولة الكويت، في زيارة رسمية إلى باريس وكان يومها وزيراً للخارجية، فأقام سفير الكويت لدى فرنسا في ذلك الوقت، الدكتور طارق الرزوقي، على شرف الشيخ صباح حفل استقبال في صالونات قصر السفير المقابل لمقر السفارة الواقع في ساحة مشهورة هي ” ساحة الولايات المتحدة الأميركية” والواقعة في أحد أفخر أحياء العاصمة الفرنسية. والطريف ـــ قبل أن أكمل قصتي مع الشيخ صباح ـــ هو أن هذه الساحة، إضافة الى سفارة الكويت وقصر السفير، تحتضن أيضاً سفارة مصر، وقصر السفير المصري في بناية أخرى مقابلة، كما كانت تحتضن سفارة البحرين، ومنزل الشاعر الفلسطيني الكبير المرحوم محمود درويش في الرقم 7، وقصر زوجة المليونير أكرم عجة، ومنزل الناشر بسام فريحة …وغيرهم. وقد دُعيت الى هذا الحفل وكنت يومها مديرا لتحرير مجلة ” الدولية” الأسبوعية السياسية. لم يكن حفل الاستقبال حفلا رسمياً وفي مكان عام، ولذلك لم يكن هناك الرجل الذي يسميه الفرنسيون “النبّاح” وهو الذي يقف عند الباب يستعلم عن أسماء الداخلين ويعلن بالصوت العالي اسم كل مدعو قبل أن يتقدّم للسلام على الأمير.
وصلت الى قصر السفير ودخلت، وكان الأمير صباح واقفاً في وسط الصالون الأول يسلّم على المدعوين والى جانبه السفير الدكتور الرزوقي. فور اجتيازي عتبة الباب، إذ بالأمير صباح يتوجه اليّ بدهشة وصوت عالٍ وابتسامة عريضة قائلاً باللهجة الكويتية طبعاً: “أوه…يا ريّال، وينك انت؟ والله زمان ما شفناك” ! فأسقط في يدي إذ لم تكن لي أية علاقة بالأمير صباح لا من قريب ولا من بعيد.
في اللحظات التي اجتزت خلالها المسافة من الباب حتى الوصول إلى الأمير وسط الصالون، مرت في ذهني عشرات الكلمات والجمل التي كنت أحاول في أقل من ثانية اختيار أفضلها للإجابة على كلام الأمير من دون أن أُحرج أنا أو أحرجه هو. فقد أدركت فوراً أن الأمر اختلط عليه الأمر، وانه يظنني شخصاً آخر يعرفه جيداً.
وصلت أخيراً إليه ولم أفلح بالاختيار لصعوبة الموقف والحرج الذي اعتراني، فخرج مني عفويّاً أسوأ جواب ممكن إذ قلت له: ” بهالدنيا” ! وسلّمت، ودخلت الى الصالون الكبير حيث من سبقني من المدعوين وأنا مضطرب الحال أفكر في ما سأقوله ثانية لو أن الأمير عاد وكلّمني وسألني عن أحوالي بعد انتهائه من استقبال المدعوين.
لكن يبدو ان السفير الرزوقي الذي كان يعرفني صحّح الموقف وأدرك الأمير أنه أخطأ، فعندما رآني بعدها وهو يتجوّل في الصالون يتحدث مع المدعوين لم يفاتحني بأي شيء، فمرت السهرة بسلام، وهدأت الأعصاب مع مرور الوقت ولقاء الزملاء، وخصوصا بعد تناول بعض الطيبات الشرقية والغربية التي كانت قد ملأت الطاولات.
خلال ذلك الحفل، كنت أجلس مع بعض الزملاء الى إحدى الطاولات حين مر بنا السفير الدكتور طارق، فجلس معنا وأخذنا نتحدث في بعض المواضيع السياسية ولم يكن قد مضى على تحرير الكويت وقت طويل، فجرنا الحديث إلى موضوع التهديد والاحتلال.
أخبرنا الدكتور الرزوقي يومها أنه عندما بدأ العراق يهدد الكويت، طلب الأمير جابر رحمه الله عددا من السفراء في الدول الغربية الكبرى لاستشارتهم في تلك الأزمة، وكان من بينهم الدكتور الرزوقي. تكلم كل سفير وأدلى بوجهة نظره وفق معلوماته. ولما حان دور الدكتور طارق سأله الأمير: وانت يا طارق، ماذا تقول؟ أجابه السفير بأن رأيه يخالف آراء زملائه، وأنه إذا كان العراق يطالب بعشرة مليارات دولار فلنعطِه عشرين ملياراً ونوقّع معه اتفاقاً نهائياً ونتفادى ما قد يحصل والذي ربما يكلفنا أكثر من هذا المبلغ بكثير. وأضاف الدكتور طارق أن زملاءه اشمأزوا من رأيه هذا ونعتوه يومها بالمستسلم ، ثم قال أن الأمير كان ربما يميل إلى هذا الرأي، لكن أحد الرؤساء العرب خدعه وأكد له وأقنعه بأن العراق يخادع ولن يهاجم الكويت وان الكويت يجب أن لا تدفع دولاراً واحداً.
وختم السفير كلامه قائلاً: وبعد التحرير، التقيت ببعض السفراء الذين كانوا قد لاموني على رأيي فقالوا لي: لقد كنت يا طارق على حق، ليت رأيك أخذ طريقه الى التنفيذ.
ولقد وقعت في أحد الأيام في موقع يوتيوب على مقابلة تليفزيونية مع السيد مروان القاسم الذي كان وقت الأزمة مع العراق وإبان احتلال الكويت وزيرا للخارجية في الأردن ومبعوثا للملك حسين لدى الرئيس العراقي وغيره من المسؤولين العرب والأجانب، قال فيها صراحة إن الرئيس حسني مبارك، خان العراق ليس مرة واحدة أثناء الأزمة مع الكويت بل مرتين، فتذكرت كلام السفير الرزوقي.
ولعمري، هذا ليس بغريب على العرب، ألم نكتشف أن أحد الملوك العرب أفشى سر حرب مصر لتحرير سيناء عام 1973 لإسرائيل لكنهم لم يصدقوه؟ ألم نكتشف أن ملك المغرب الحسن الثاني سمح للمخابرات الإسرائيلية بتسجيل وقائع مؤتمر القمة الذي انعقد في الرباط؟ فتاريخنا كله خيانات بخيانات، أدّت إلى أنهار من الدماء لا تزال تجري حتى يومنا هذا، ولن تتوقف طالما يجري في عروقنا التعصب الديني والطائفي ويغمرنا الجهل.
ترقبوا مقالا للإعلامي الدكتور نبال موسى كل يوم اثنين