بقلم الدكتور نبال موسى
في أيار من العام 1995، دعتني وزارة الإعلام القطرية بوصفي مسؤولاً عن مجلة اقتصادية لزيارة قطر وإجراء عدد من المقابلات والتحقيقات الصحفية هناك، فلبّيت الدعوة.
كان لي في قطر صديقان مصريان عزيزان على قلبي يعملان في التدريس في جامعة الدوحة فأخبرتهما بمجيئي.
وصلت إلى المطار فكان في انتظاري مندوب من الوزارة عرّفني بنفسه وبأنه سيرافقني خلال مدة الزيارة، وسلّمني برنامجاً لعدد من المقابلات المقترحة مع بعض كبار المسؤولين في مختلف المجالات، مع ترك المجال لي لاختيار المزيد لو أحببت. وكان في المطار بالطبع صديقاي اللذان فرحت بلقائهما اشد الفرح كما فرحا هما بذلك حيث أننا كنا لم نلتق منذ سنوات طويلة جداً، واقترحا علي مرافقتي إلى الفندق، فطلبت من المرافق أن يتيسّر على أن يرافقني غدا مع بدء المقابلات. وهكذا كان. ولكن، ولشدة السعادة باللقاء من الطرفين لم ننتبه إلى أن المرافق لم يضع الشنطة في السيارة، وغادرنا المطار وتوجهنا إلى فندق شيراتون حيث مكان إقامتي لنكتشف أن الحقيبة غير موجودة فعدنا أدراجنا إلى المطار لنجدها تدور وحيدة على البساط الجرّار، تنتظر الفرج…
كنت أجري معظم مقابلاتي قبل الظهر وأعود إلى الفندق للغداء حيث قيل لي إنني ضيف الدولة وانه ليس عليّ سوى أن أوقّع فقط على الفواتير.
في اليوم الأول لدخولي إلى المطعم استقبلني بترحاب مميز رئيس الصالة وكان رجلا لطيفاً مصري الجنسية اسمه أحمد. وبما أنني درست في مصر وأحب أهلها، فقد مازحته قليلا وبادلني المزاح وارتاح إلي، فانحنى نحوي وهمس في أذني بحذر: “يا دكتور، خلّي بالك، المكتب الإسرائيلي في الطابق السادس”.
أما في المساء، فكان صديقاي يأتيان لاصطحابي في نزهات لطيفة إلى الشاطئ أو بعض الأماكن اللطيفة قبل أن يصرّا على دعوتي للعشاء إما في منزلهما أو في أحد المطاعم.
بعد عدة أيام على هذه الحال، أتناول الطعام وأوقّع على الفواتير، دعوت صديقيَّ إلى العشاء في الفندق حيث أقيم، وأمضينا سهرة سعيدة ثم غادرا. ناديت أحمد طالباً الفاتورة فجاء بها مع القلم للتوقيع. أخرجت محفظة النقود وفتحتها وبدأت أُخرج منها ثمن العشاء الذي كان بالدولار الأميركي، فصرخ أحمد: “بتعمل أيه يا بيه؟ الله، ما تمضي زي العادة”! قلت: لا يا أحمد، هذا عشاء خاص بدعوة مني ولا علاقة له بمهمتي. قطر لم تدعُ صديقيَّ، ولن أقبل أن أوقّع بل سأدفع من جيبي. وعاد أحمد ليقول: يا بيه حرام عليك، أمضِ وخلاص، دول عندهم فلوس كتير. لكنني أصررت ودفعت المبلغ أمام ذهول أحمد واستغرابه وربما استهباله لي، وصعدت إلى غرفتي.
ما إن دخلت الغرفة، حتى وقع نظري على باقة ورد وقالب “غاتو” لعدة أشخاص. اعتقدت للوهلة الأولى أنني دخلت خطا إلى غرفة غير غرفتي وحاولت التراجع قبل أن تقع عيني على حقيبتي وأغراضي، فأيقنت أنها غرفتي، لكن من أين جاءت باقة الورد وقالب الحلوى؟ تقدمت نحو الطاولة فوجدت ورقة مزركشة كتب عليها بالانكليزية ما معناه: عيد ميلاد سعيد، ففطنت إلى أنه يوم مولدي. حاولت الاتصال بصديقيَّ لعلهما غير بعيدين عن الفندق ليعودا للاحتفال معي بهذه المناسبة المنسية، لكنني لم أوفّق، فوضعت القالب في الثلاجة واسترسلت للنوم.
في صباح اليوم التالي، جاءت عاملة التنظيف الآسيوية لترتيب الغرفة فأخرجت قالب الغاتو وقدمته لها مع بعض الكلمات الوحيدة التي أعرفها من لغة شكسبير ومعناها: هذا لك! فوجئت العاملة ونظرت إليّ باستغراب وهي لا تفهم كيف ولماذا يقدّم لها نزيل فندق قالبا رائعا من الحلوى. لعلها اعتقدت أنها محاولة تحرّش، فبقيت متجمّدة في مكانها ولم تمد يديها. فطلبت منها الانتظار لحظة وكلّمت الاستقبال شارحاً له الموقف، ثم مررت لها السماعة فانفرجت أساريرها وأخذت القالب والسعادة تملأ وجهها.
جاء المرافق وخرجت لإكمال تحقيقاتي قبل أن أعود حوالي الواحدة بعد الظهر إلى الفندق. وما إن دخلت إلى غرفتي حتى رأيت على الطاولة وردة بيضاء في كوب من الماء!
ترقبوا مقالا للإعلامي الدكتور نبال موسى كل يوم اثنين