بقلم الدكتور نبال موسى
اتصل بي في العام 1985 أحد المسؤولين عن نادٍ ليلي عربي في باريس ورجاني أن أستقبل في برنامجي “نجم على الهواء” في إذاعة الشرق مطربة سورية شابة قال ان صوتها جميل جداً وتبشّر بمستقبل فني باهر. قلت له: ما اسمها؟ قال: ربى جمال، فقلت: يا رجل، لم أسمع بها من قبل ولا أريد لبرنامجي أن يسوء مستواه. لكنه أكد لي انني لو سمعتها لخمس دقائق فقط فلن أندم. فوافقت وطلبت منه أن يصطحبها عازف عود وعازف كمان من فرقة النادي.
بعد ظهر يوم الأحد من ذلك الأسبوع، وبالتحديد في 16 حزيران 1985 وهو التاريخ الذي دوّنته على الشريط الذي أحتفظ به حتى الآن، وفي الموعد المحدد، وصلت الى الستوديو الفنانة ربى جمال مع الموسيقيين ومدير النادي المعني. رأيت فتاة شابة نحيفة خجولة. كان عمر ربى في ذلك الوقت 19 عاماً لا أكثر، وكان لها عدد قليل من الأغاني، لكنها كانت كما كثير من المطربات الشابات تغني لأم كلثوم واسمهان. أجريت المقابلة مع هذه الفنانة الشابة مباشرة على الهواء وسارت الأمور كما يجب، لكن صوتها لم يدهشني أكثر من اللزوم مع ان اتصالات المستمعين التي كانت تثني عليها لم تنقطع طوال ساعتي المقابلة.
تركت الاذاعة في العام 1986 وكما سبق ان قلت، قطعت كل علاقة بالوسط الفني ولم اعد اسمع عن ربى اي شيء، حتى أرسل الي منذ عامين تقريبا احد اصدقائي الذي يعرف انني أهوى الطرب الأصيل فيديو للمطرب الكبير المرحوم وديع الصافي يؤدي فيه في دار الاوبرا المصرية بمناسبة تكريم محمد عبد الوهاب مسرحية مجنون ليلى مع … ربى جمال.
تذكرت هذا الاسم بشكل غامض. شغّلت الفيديو واستمعت الى المسرحية، وكم كانت دهشتي كبيرة عندما اكتشفت أنها ربى التي استقبلتها قبل حوالي 31 عاما، وكم كانت متعتي أكبر بصوت هذه الفنانة الرائع الذي لم يعد يمت بصلة الى صوت ربى الشابة ذات التسعة عشر عاما. صفق لها في ذلك المساء جمهور الأوبرا المصرية أكثر من عشر دقائق. سحرت الجماهير بصوتها الحنون وأدائها المتقن الذي جعل الناس يشعرون كأن اسمهان هي التي تغني.
بحثت في خزائني لعلي أجد شريطاً لمقابلتي معها لأنني لم أسجل كل مقابلاتي للأسف، فوجدته، واستمعت الى المقابلة التي أعادتني الى أيام الشباب. ثم رحت أبحث في يو تيوب عن ربى جمال، وهنا كانت المفاجأة المحزنة جداً لي. فقد اكتشفت أن ربى فارقت الحياة منذ سنوات وهي في أوج عطائها وفي ظروف سيئة ومخجلة. رحلت بعدما أطربت الجماهير العربية من المحيط الى الخليج بأدائها لعشرات الحفلات التي غنت فيها معظم روائع كوكب الشرق وأسمهان.
واكتشفت أن ربى جمال رحمها الله ليس هو اسمها الحقيقي بل انها من ام لبنانية وأب سوري أرمني واسمها صافيناز ختشادور قربتيان. ولدت في مدينة الطرب الأصيل حلب عام 1966 وتدرّبت على الغناء في مدرسة راهبات الوردية في الأردن ثم غادرت الى باريس لدراسة طب الاطفال إرضاءً لوالديها مع أن حلمها كان أن تصبح مطربة. وفي باريس سرعان ما تغلّب حلم الشابة على حلم الوالدين فانطلقت في ميدان الغناء. كانت تملك صوتا صافيا يصنّف بأنه “سوبرانو” كما يقول المتخصصون. ثم سافرت الى مصر حيث نالت شهرة كبيرة وقال عنها الموسيقار محمد سلطان “انها لو وافقت أن تبقى في مصر لعام واحد فسأجعل منها أهم مطربة في عصرها”.
في العام 2005، وبعد أحدى الحفلات التي جرت في أحد فنادق دمشق، حصل سوء تفاهم حاد بينها وبين الفرقة الموسيقية، أدى الى تركها المسرح. وبينما هي تنزل الدرج علق فستانها به فوقعت وارتطم رأسها بالأرض وغابت عن الوعي. نقلت الى مستشفى “سنان” حيث تم علاجها واستعادت وعيها، لكن يبدو ان جلطة كانت حدثت في رأسها وتزايدت فانشل جزء من جسدها. وقيل إنها لم تحتمل مصاريف هذا المستشفى فنقلت الى مستشفى مدينة دوما، وهناك لفظت أنفاسها الأخيرة. وكان تشييعها مخجلا إذ لم يحضر جنازتها سوى 20 شخصاً من الأقارب والأصدقاء ولم يكن فيها اي مسؤول لا من الدولة ولا من الوسط الفني ولا من نقابة الفنانين ولا من الاذاعة والتليفزيون… ولعل السبب يكمن في تقصير وكالة الانباء الرسمية، وكذلك في ورقة النعي حيث كتب فيها اسمها الحقيقي صافيناز ختشادور قربتيان الذي لم ينتبه أحد الى أنه اسم الفنانة الكبيرة ربى جمال.
أدعوكم لمشاهدة، على الأقل، مسرحية مجنون ليلى على “يو تيوب” وستكتشفون هذا الصوت الرائع الذي خسره الفن الغنائي العربي.
رحمك الله يا ربى.
ترقبوا مقالا للإعلامي الدكتور نبال موسى كل يوم اثنين