بقلم الدكتور نبال موسى
قرأت منذ سنوات كتاباً لجاك أتالي مستشار الرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا ميتران عن الوقت وإدارة الوقت بعنوان: ” كيف تكسب وقتاً من الوقت”. وقد جاء الكتاب ليذكي في داخلي ” ثورتي ” المزمنة على الكثيرين في بلادنا ممن لا يبدون أي احترام لهذا العنصر الحياتي البالغ الأهمية، ولا يعيرون أي اهتمام لآلة قياسه المحترمة، مع أنهم يتباهون دائماً باقتناء أجملها وأغلاها وأشهرها وأكثرها … لمعاناً
فيظهر أن بيننا وبين الساعة سراً غريباً قد يكون نوعاً من العلاقة العاطفية على طريقة ” راسين “، حيث يمتزج الحب بالكره، أو ينقلب الحب كرهاً في أعلى الدرجات.
فالملاحظ أن العرب هم من أكثر الأمم حباً بالساعات على اختلاف أنواعها وأشكالها، يدوية كانت أو منزلية أو عامة. ولكنهم، في الوقت نفسه، من أكثر الشعوب إهمالاً لها ولما تشير إليه. فأنت لا ترى عربية أو عربياً إلا ويحمل من الساعات أكثرها فخامة. وتزور المنازل فأول ما يواجهك ساعة تتصدر حائط الصالون، وأخرى سطح التلفزيون، وثالثة رفوف المكتبة، ورابعة فوق طاولة الطعام…وربما خامسة في المطبخ، إن لم يكن سادسة في الحمام.
وإذا زرت أحد الموظفين أو المسؤولين في وزارة أو سفارة أو دائرة، فأول ما يخطف نظرك، بعد صورة زعيم البلاد الذي يبدو وكأنه يتأهب لخطف روحك، ساعة الحائط الفاخرة التي غالباً ما يكون قد كساها الغبار وتوقفت عن العمل، مثلما توقفت أدمغة الملايين من أبناء الشعب العربي عن العمل منذ زمن طويل.
لكن، على رغم كل هذا الغرام العربي بالساعات والاهتمام بها، فإننا أكثر الشعوب احتقاراً للوقت وكرهاً للمواعيد الدقيقة. الساعة عندنا ليست للاستعمال، بل هي مجرد زينة للمفاخرة وإبراز الأهمية الاجتماعية. يعطيك العربي مواطناً عادياً كان أو مسؤولاً موعداً فيقول: ” بين التاسعة والعاشرة “، ثم يأتيك في العاشرة والنصف. العجلة من الشيطان كما يقولون، والوقت “ببلاش”، لا قيمة له في بلاد قحطان بن يعرب…
لم يدركوا بعد أن الزمن تغيّر، وأن للوقت قيمة لا تقدر بثمن. ففي الدول المتقدمة يحسبون لك كم تكلف دقيقة الإضراب الواحدة مثلاً من خسارة مادية للبلاد. وفي الجامعات المتحضرة تدرّس منذ عقود مادة “إدارة الوقت” للاستفادة منه إلى أقصى الحدود. أما نحن، فنعيش خارج الوقت، لا بل خارج الزمن …
والنتيجة: أنظروا إلى حالنا.
والغريب في الأمر تلك المفارقة العجيبة وهي أن أكثر هدية متداولة في بلادنا بين الناس هي الساعة. وأول هدية تهدى للصحافيين من زوّار المسؤولين هي ساعة، وثمينة غالباً لدرجة أن بعض رؤساء التحرير أو المدراء أو أصحاب الصحف أشرفوا على الشيخوخة ولا يزالون متمسكين بالقيام شخصيا بتلبية الدعوات إلى هذا المؤتمر أو ذلك الحفل أو المهرجان، رافضين انتداب الجيل الجديد، وذلك كي يحصلوا أنفسهم على الساعات الموعودة.
كلنا سمعنا في جلساتنا الصحفية حكايات بعض المخضرمين الذين يملكون الآن، مع مرور الوقت و بفضل “التخصص”، مجموعات كاملة من ساعات الرولكس والأوميغا والباتيك فيليب… المرصعة بالماس والأحجار الكريمة، التي تتوسطها غالباً صورة أو شعاراً، مما يفسد أناقتها. وأعرف صحفياً أهداه رفعت الأسد ساعة رولكس ذهبية محفور اسمه عليها، فحكى لي أنه دفع مبلغاً كبيراً لنزع الاسم.
وأخبرني أحد الزملاء مرة أنه كان في أواخر الستينات مع وفد صحفي في زيارة لزعيم إحدى الدول بمناسبة العيد الوطني لتلك الدولة. وبعد الخطب عن الإنجازات والمعجزات التي حققها طبعاً الزعيم المعني، جاء دور الهدايا كي يتمكن الصحافيون من الكتابة “الموضوعية”. فجمع الزعيم الوفد حول مسبح القصر وأخرج من إحدى العلب خمسين ساعة رولكس ذهبية مرصعة و “رشّها” في المسبح وهو يقول: هذه لكم. وفي لحظة، غطس الجميع بثيابهم لصيد الرولكس التي كانت تساوي أضعاف الراتب الشهري لأي صحفي في ذلك الزمان، إلا صاحب الرواية طبعاً لأنه… لم يكن يجيد السباحة على حد قوله!
وهناك قصة معروفة عن أن أحد الصحفيين الظرفاء والجريئين (ع. ش.) ممن عاشوا في الخليج فترة طويلة وكان يجمع مثل هذه الساعات، فقد كان يزور يوماً أحد المسؤولين الكبار لإجراء حديث صحفي. وبعد انتهاء الحديث، بقي صاحبنا يطيل في الكلام بمعنى ومن دون معنى، منتظراً، كالعادة، الساعة الهدية. ويبدو أن المسؤول نسي يومها هذا “الواجب”، أو تناساه، فطالت المماطلة وأحسّ صاحبنا بان الساعة ستطير هذه المرة، فأنقلب يتحدث في الدين، ويمرّر عبر كلامه بمناسبة وبغير مناسبة الآية الكريمة: ” إن الساعة لآتية لا ريب فيها…” إلى أن تنبه المسؤول فضحك طويلاً وأومأ إلى من أحضر الساعة الموعودة، وغادر الصحفي مطمئن…الجيب، مضيفاً إلى مجموعته ” حبة ” جديدة.
لقد ابتعدنا كثيرا و تشعب الموضوع، وقصص الساعات كثيرة ونوادرها أكثر، منها ما يحكى وأكثرها لا يحكى. وكلما دار الحديث عن الساعات لا يمكنني إلا أن أتذكر ساعة المرحوم والدي الذي توفي عن اثنين وتسعين عاماً، تلك التي اشتراها كما روى لي مراراً وبفخر في الحرب العالمية الثانية، بالمال الذي كسبه من عمله هو وعدد من الشباب اللبنانيين خلال عدة أسابيع، أو أشهر، لم أعد أذكر، مع الجيش الإنكليزي في إنشاء مطار مدينة حلب. إنها ساعة جيب من ماركة أوميغا. ” أهمّ ساعة في العالم ” كما كان يقول عنها دائماً، رحمة الله عليه،” لأنها ببساطة لم تتوقف عن الدوران يوماً واحداً “. لم أعرف رجلاً أطيب منه وأكثر استقامة.
وأخيرا، وعلى ذكر الساعات، هناك قصة حقيقية تروى فيها الكثير من العبر. عندما مرض المؤذّن المصري المرحوم الشيخ محمد رفعت، ” كروان العالم العربي ” كما كانوا يطلقون عليه لأنه كان ولا يزال من أفضل وأشهر من رتل القرآن الكريم، وكان صوته من أجمل الأصوات لدرجة أن أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب كانا يذهبان للاستماع إليه، أقول: عندما مرض تبين أنه فقير الحال. ولم يصدق أحد أن هذا الشيخ الشهير لم يكن يملك ما يمكّنه من الاستشفاء. وقد رفض كل الأموال التي عرضت عليه عندما انكشف حاله، وكان يقول شاكراً إنه لا يريد ” ردّ قضاء الله “. وعندما توفي، بحث ورثته في كل مكان فلم يجدوا شيئاً. ثم عثروا بعد فترة بين أوراقه على رقم خزنة في احد المصارف المصرية، فذهبوا إليه وبعضهم يظن انه لا بد من أن يكون في الخزنة الكنز الموعود. وعندما فتحوها وجدوا فيها …ساعة وقرآناً.
فقد كان الشيخ ينفق كل أمواله على الفقراء والمعوزين.
فتأملوا في كل هذا وذاك.