بقلم الدكتور نبال موسى
في الخامس عشر من كانون الاول عام 1981، وكانت الحرب الأهلية اللبنانية (التي لم تكن أهلية فقط) في أوجها، تمّ تفجير السفارة العراقية في بيروت، وقُتل في الحادث 61 شخصاً من بينهم السيدة بلقيس الراوي زوجة الشاعر الكبير نزار قباني رحمهما الله، حيث كانت تعمل في المكتب الثقافي في السفارة، كما جرح 110 أشخاص.
كانت السفارة تقع في المنطقة من بيروت التي يسيطر عليها الفلسطينيون والقوى اليسارية الموالية لهم. فور وقوع التفجير وصلت القوى الفلسطينية الى المكان غير البعيد عن مراكزها وضربت طوقاً أمنياً وتم إنقاذ ما أمكن إنقاذه من الجرحى ومن أشياء السفارة المهمة، كما وضع الفلسطينيون اليد على أرشيف السفارة ومستنداتها والوثائق التي كانت في خزائنها.
حكى لي الزميل والصديق الكاتب الفلسطيني المعروف بلال الحسن شفاه الله، وكان يعمل في بيروت في ذلك الوقت، أنه تلقى بعد هذه الحادثة بأيام اتصالاً من القائد الفلسطيني “أبو إياد” يطلب منه الحضور الى مكتبه لأمر مهم. سأله الصديق بلال: خير انشاء الله؟ فرد أبو إياد: تعال، وستعرف، هناك مفاجأة لي ولك!
راحت تجول في خاطر الصديق بلال الحسن، شقيق المناضلين الفلسطينيين المعروفين خالد وهاني الحسن، أفكار وأفكار حول ما يريده منه أبو إياد وبهذه السرعة. بعد حوالي الساعة، وصل الصديق بلال إلى مكتب “أبو إياد”، وما إن دخل من الباب حتى صرخ ابو إياد بكلمة لا يجوز ان نذكرها لكننا نترجمها بما معناه ” خيّبت ظني”. فقال بلال: معاذ الله، لكن “شو القصة يا أبو إياد” ؟ أجاب أبو إياد: عثرنا في أنقاض السفارة العراقية وضمن مستنداتها على قائمة بالصحافيين اللبنانيين والعاملين في لبنان الذين يتقاضون رواتب أو أموالاً من العراق. وكنت متأكدا من أنك من بينهم، وكنت أودّ أن آخذ عليك مأخذاً، لكنني فوجئت بأن اسمك غير موجود في القائمة، فخيّبت ظني. فضحك بلال، وضحك أبو إياد.
وكان من الطبيعي ان يطلب بلال الحسن من أبو إياد الاطلاع على القائمة. وبحكم موقع بلال وصداقته، أطلعه أبو إياد على عدد من الأسماء شرط أن لا ينشرها. وكان من الطبيعي أيضاً ان أطلب أنا من صديقي ان يذكر لي بعض الاسماء على الاقل. ومع ثقته التامة بي وبأنني لن أبوح علنا بما سيطلعني عليه، لم يسرّب لي سوى أسماء ثلاثة صحفيين لن أذكرهم طبعاً، خصوصاً أن واحداً منهم قد توفّي، وآخر اعتزل، والثالث الذي كان شابا في ذلك الوقت يتبوّأ اليوم مركزاً مهماً في دنيا الصحافة والإعلام.
هل ننتظر تفجير سفارات أخرى كي تُكتشف قوائم أخرى؟ لا أعتقد أننا بحاجة إلى ذلك، ففي لبنان: “كله معروف وكله على المكشوف”، فلا “حياء” لمن تنادي، بالإذن من الشاعر.
وكنت ذكرت في مقال سابق ما حكاه لي المطرب الكبيرمحمد عبد الوهاب من أن الرئيس جمال عبد الناصر عندما علم أن حقائب عبد الوهاب لا تفتّش في مطار بيروت أخذ يرسل في حقائب الفنان الكبير أموالاً كي يوزعها على بعض الصحفيين في لبنان. وأخبرني زميل عتيق، وهو يتذمّر، انه عندما أصبح الملك عبدالله ملكاً على السعودية توقف مبلغ قيمته 500 دولار كان يتلقاه شهرياّ منذ أيام الملك فيصل، تخيّلوا !
وحكى لي الشاعر الكبير محمود درويش رحمه الله أن أحد الصحافيين الكبار كانت مطبوعته على وشك الإفلاس، فذهب الى أبو عمار في تونس يطلب نصف مليون دولار لإنقاذ مجلّته فأعطاه 300 ألف دولار لكنه، حسب محمود درويش، وضعها في جيبه ولم ينقذ مطبوعته من الإفلاس، فغضب منه ياسر عرفات غضبا شديداّ. وفي أواخر الثمانينات كانت إحدى المطبوعات التي تصدر في لندن تساند العراق وتتلقى منه الدعم المالي. وذات مرة تأخر وصول الشيك بسبب ظروف الحرب مع أيران. وبعد انتظار عدة أشهر قيل لصاحب المطبوعة إن الشيك وصل ولكن الى السفارة في باريس. فتوجّه الى باريس واكتشف ان الشيك لم يصل بعد، فأصيب بذبحة قلبية وأُدخل الى المستشفى. وحكى لي أحد المقرّبين جدا من مسؤول رفيع في جبهة فلسطينية معروفة أنه تلقى عرضاً من مخابرات دولة غربية كبرى للتعاون معها بغرض معرفة بعض الملفات والمعلومات عن بعض العمليات، فطلب لقاء هذا التعاون ــــ وهو كان يحب الصحافة ــــ أن يمولوا له مجلة اسبوعية. فأجابه مسؤول المخابرات: يعني مثل سليم اللوزي؟ (على ذمة الراوي). وأخبرني صاحب إحدى المطبوعات وهو يسبّ انه على أثر غزو العراق للكويت وقف مع الكويت بعد وعود بدعم كبير لكنه لم يتلقّ سوى 25 ألف دولار.
هذا كله نقطة من بحر، فتاريخ الصحافة اللبنانية مليء بالمئات من الحكايات من هذا النوع وبمئات الأسماء، حكايات يلزمها مجلدات، أعرف الكثير منها بالتواتر، لكنني بحكم مغادرتي لبنان الى فرنسا وكوني من الجيل الحديث، أجهل الكثير الكثير.