بقلم الدكتور نبال موسى
بمناسبة ذكرى سفر الإمام الخميني من باريس الى طهران قبل أيام في أول شباط 1979 خطر على بالي أن نتوقف قليلا مع الذكريات الفنية، لأقص عليكم كيف تعرّفت على أحد معاونيه، وكيف فاتتني فرصة السفر معه بالطائرة مع أن بطاقتي كانت جاهزة تنتظرني.
في 23 حزيران من العام 1978 بدأت العمل في مجلة “المستقبل” في باريس بعد ان تركت تعليم اللغة العربية بالوسائل السمعية البصرية في المعهد العالي لتعليم اللغات (كاريل) التابع لجامعة بواتييه غرب فرنسا. وكنت قبلها استاذا في كليتي التربية والآداب في الجامعة اللبنانية قبل أن أغادر بسبب الحرب السيئة الذكر. كانت كل دورة من دورات اللغة تمتد الى ثلاثة أشهر، يتخرج الطالب بعدها وهو يستطيع تدبر أمور حياته اليومية بلغة عربية فصحى حديثة.
في إحدى الدورات، كان أحد طلبتي شاب أيراني متزوّج من امرأة فرنسية اسمه مهدي ظريف. تقرّب مهدي مني ربما لأننا من منطقة متقاربة، ودعاني مرة إلى العشاء حيث اكتشفت عنده أسرار المطبخ الإيراني وتعلّمت كيفية عمل الرز بصفار البيض وغير ذلك من الأمور. وتوطدت العلاقة بيننا ثم غادر الى باريس بعد انتهاء الدورة وأعطاني رقم هاتفه وطلب ان أزوره إذا ما “صعدت” إلى العاصمة.
كان مهدي قد طلب مني قبل أن يغادر لو يستطيع الحصول على نسخة من الكاسيتات التي كنت استعملها في المختبر لتدريب الطلبة على النطق بالعربية. فأعطيته استثنائياً نسخة ولقي هذا عنده استحسانا كبيراً.
بعد عدة اشهر تركت العمل في المعهد المذكور و”صعدت” إلى باريس حيث بدأت عملي الصحفي في مجلّة ” المستقبل” العتيدة. كان الإمام الخميني قد جاء الى باريس واستقر في إحدى ضواحيها. اتصلت بمهدي والتقينا أكثر من مرة، ولم أعرف عنه شيئا إضافيا غير الذي كنت أعرفه سابقاً.
في أحد الأيام، كنت استمع إلى مقابلة لأذاعة “فرانس أنتير” مع ثلاثة من المقربين من الإمام الخميني على ما قالت الإذاعة، بمناسبة قراره السفر إلى إيران من منفاه الفرنسي لقيادة الثورة. وفجأة تعرّفت على صوت مهدي، وأعتقد أنه كان مع قطب زاده ومهدي بازركان. أتصلت به فأكّد لي أنه هو الذي كان في الإذاعة، وأخبرني ما كان قد أخفاه عني من أنه لاجئ سياسي وأن اسمه الكامل مهدي ظريف عسكري، وانه يوميا عند الإمام في “نوفل لو شاتو”، ودعاني لزيارته هناك والتعرف على الإمام الخميني. ثم سألني، كوني أصبحت صحفياً، إن كنت أود السفر مع الإمام الى طهران. فوافت فوراً قائلا في نفسي انني هكذا أكون قد سجّلت في بداية حياتي الصحفية (7 أشهر) سبقاً صحفيا مهما، فسجّل مهدي إسمي في قائمة المسافرين، لكنني لم إدرك بحكم خبرتي البسيطة يومها أهمية هذه الخدمة، لأن آلاف الصحفيين كانوا يتصارعون للحصول على مقعد في طائرة الخميني. وأخبرت صاحب المجلة المرحوم نبيل خوري فسُرّ كثيراً وصرف لي فوراً ألفي دولار لمصاريف السفر.
لكن قلة خبرتي وعدم نصحي من أحد أفشلا السبق الصحفي المأمول، فلم أذهب إلى بيت الخميني لأخذ البطاقة معتقداً أنني سوف ألتقي مهدي في المطار وسيسلّمني إياها وأسافر.
وجاء يوم السفر وذهبت الى المطار الذي كانت صالاته تعجّ بحشود من الإيرانيين تهتف بحياة الخميني وبالكثيرين من الفضوليين. وبالطبع، فالخميني ومن معه دخلوا من باب خاص بعيد، ووقفت أنا مع خيبتي أتعلّم درساً لن أنساه. وفجأة أطل مهدي من بين مئات الناس مع شيخ معمم لم أعرفه، وأصعدهما البوليس على طاولة وألقيا كلمتين شكرا فيهما فرنسا على استضافتها للإمام وودّعا الجماهير الغفيرة. وبينما كان الشيخ يلقي كلمته، ونظرا لقامتي، رآني مهدي من بعيد فأخذ يشير إلي بما لم أفهمه، ثم جاءتني زوجته التي كنت قد تعرّفت عليها سابقاً وعاتبتني على عدم ذهابي الى مقر الخميني لسحب البطاقة، وقالت لي إن مهدي استبقاها حتى آخر يوم، لكن الحكومة الفرنسية خشيت من ان لا تتمكن الطائرة من النزول في طهران لأسباب أمنية فتضطر للعودة إلى باريس، وبالتالي حمّلت من الوقود ما يكفي للذهاب والإياب، فزاد الوزن كثيراً مما أدّى الى شطب عدد كبير من الصحافيين الذين تأخروا في سحب بطاقاتهم.
وهكذا، عدت خائباً من المطار، وطار الخميني وطار معه سبقي الصحفي الموعود.
بعد سنوات، عندما اشتريت منزلي الحالي قال لي صاحب المنزل إن ابنته الممرضة تزوجت شاباً أيرانياً من منظمة “مجاهدي خلق” وسافرت معه إلى العراق حيث كانت هذه المنظمة تشن هجوماتها على أيران من الأراضي العراقية. وفي إحدى المرات، أُسرت هي وزوجها، ومنذ ذلك اليوم لم يُعرف لهما أثر على رغم محاولات كثيرة قام بها الصليب الأحمر الدولي وغيره من المنظمات. فأحببت خدمة هذا الرجل المسكين.
كنت أعرف أن الصديق خليل شميّل هو صديق لبني صدر، الرئيس الإيراني السابق يومها واللاجئ الى فرنسا. فطلبت منه أن يأخذني اليه، فوافق بالطبع وذهبنا، خليل وأنا، الى بني صدر في منزله في فرساي وعرضنا عليه مساعدة هذا الرجل في معرفة مصير ابنته، فقال إنه سيحاول عبر شبكة أصدقائه في أيران. ثم سألته عما إذا كان يعرف شيئاً عن مهدي ظريف عسكري، فأخبرني انه كان مديرا عاما لوزارة الإعلام لكنه اختلف مع المجموعة، فترك السياسة وهو الآن تاجر أغنام في مدينة مشهد، مدينته. فقلت في نفسي: حسناً، لقد نجا بنفسه، لأن أقرب المقربين للإمام تمت تصفيتهم. ولم يتصل بني صدر فيما بعد ليخبرنا بأي شيء، ولم أعرف منذ ذلك الوقت أي شيء عن مهدي ظريف عسكري!