بقلم الدكتور نبال موسى
كانت مجلة “المستقبل” التي عملت فيها سبع سنوات كواحد من بين سكرتيري التحرير الثلاثة قبل أن أنتقل الى شقيقتها في المبنى نفسه “ياسمين” كرئيس للتحرير، كانت تنشر في صفحاتها الأولى صفحة كاملة من “الأسرار”، وهي أخبار قصيرة من المفترض ان المجلة حصلت عليها وتقدمها للقارئ الحشري المتطلّب، وتبرزها كأنها نوع من التفوّق وعرض العضلات أو الإنجاز الذي تحققه لخدمة القراء. والقراء العرب يعشقون هذه الأخبار مع أن معظمها ملفّق أو لا تنطبق عليه صفة الخبر السري، كما يعشق كثير من الصحفيين العرب اللجوء الى عبارة ” المصادر المطّلعة”، وهي عبارة فارغة لا تعبّر في 99 بالمائة من الحالات سوى عن قصور مهني فاضح، وكذب من الدرجة الأولى الممتازة. وهناك كثير من الصحافيين ينسبون معظم ما يكتبون الى “مصادر رفيعة المستوى أميركية وأوروبية سياسية وديبلوماسية” أعطتهم المعلومات شخصياً! ومنهم من يجعلك تشعر وأنت تقرا ما كتبه عن لقاء ترامب ببوتين مثلاّ وكأنه كان ثالثهما.
طبعاً، كانت علاقات صاحب المجلة وكل كتابها أوصحفييها تسمح بالحصول على بعض الأسرار سواء بحكم المخالطة أو الدسّ أو بعض المصالح الخاصة أو غير ذلك. لكن من الطبيعي أن بعض “الأسرار” كان يفبرك استناداً الى تحليل أو استشعار.
وكان هناك في المستقبل زميل يعشق هذا النوع من الكتابة، ويبدع في الفبركة، فكان يملأ وحده نصف صفحة الأسرار بأسرار وتوقعات لم تتحقق أبداً، وكانت كل مواضيعه اسراراً بأسرار، حتى أصبح الجميع يطلقون عليه “أبو الأسرار”. وأعتقد أن أول من اطلق عليه هذا اللقب هو الزميل أسعد حيدر.
وعلى سيرة الأسرار كان هناك صحفي معروف بأنه “ملك الفبركة والأسرار” يكتب في مجلة “الوطن العربي” اسمه مروان الجابري ــــ رحمه الله ـــــ وكان يوقّع باسم “جيمس مورو” كي يمنح الموضوع حسب ظنه صفة دولية وجديّة! كان الجابري يضع زجاجة الويسكي في درج مكتبه ويبدأ: كل “كرعة” بخبر أو بمقطع. وكانت تكر “الكرعات” والمواضيع المفبركة وتتصدر أغلفة “الوطن العربي” ويزيد عدد القراء العرب الراغبين في الأوهام الفارغة، وهم بعشرات الآلاف.
المهم، لنعد الى موضوعنا. في يوم من الأيام، وكنا على وشك إقفال عدد “المستقبل” كالعادة ظهر يوم الاربعاء، كي يطبع ليلتها ويشحن من باريس يوم الخميس ليكون في الأسواق العربية صباح الجمعة من كل أسبوع. في ذلك اليوم، جاء الاستاذ المرحوم نبيل خوري ناشر المجلة وقال: “يا شباب، بدنا لصفحة الأسرار خبرين أو ثلاثة”، فقلنا أبشر…
كان ذلك بعد فترة قصيرة جداً من عودة الإمام الخميني الى أيران، هذه العودة التي شهدت تأييدا كبيراً من الجماهير العربية في ذلك الوقت كونه أسقط نظام الشاه المؤيد لأميركا الداعمة لإسرائيل، كما لقي التأييد خصوصاً من جماهير الشعب الفلسطيني وقادته.
وبما أن الوقت ضيّق، فكان لا بد من التأليف. فكتبت خبرين وقلت في أحدهما على ما أذكر: ” شخصية عربية رفيعة المستوى ستزور طهران قريباً جداً لتهنئة الإمام الخميني ورفاقه بنجاح الثورة الإيرانية”. ونُشر الخبر، وانتشرت المجلة في الأسواق العربية يوم الجمعة. وفي يوم الجمعة نفسه وصل الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات جواً الى العاصمة الإيرانية بشكل سرّي للغاية، وقيل يومها إن السرية اقتضت أن لا يتم إعلام القيادة الإيرانية نفسها إلا قبل نصف ساعة من نزول طائرة عرفات في المطار خوفا من أن تقوم إسرائيل باغتياله في الجوّ.
سمع نبيل خوري بخبر زيارة عرفات ورأى مشهد وصوله في التليفزيون فاحتار في الأمر! كيف أن القيادة الإيرانية نفسها لم تكن تعلم بسفره، ولا حتى الموساد عرف به، بينما نشرت مجلّته خبراً يوحي بأنها كانت تعلم وقبل ثلاثة أيام!!!
جاء نبيل خوري رحمه الله الى المكتب الذي كنت أتقاسمه مع الزميل والصديق أنطوان عبد المسيح وسأل: من كتب هذا الخبر؟ وأشار إلى خبري المذكور. فقلت: أنا. فسألني بدهشة: وكيف عرفت به؟ من أطلعك عليه؟ فضحكت وأخبرته أنه من وحي خيالي وتأليفي ونتيجة تحليل وتوقّع، وها هو حدسي قد تحقّق. فضحك هو أيضاً وقال: بخيالك هذا سجلت اليوم للمجلة سبقاً صحفيا يحسدنا عليه كثيرون.