كتبت ريتا شمعون
كيف لشعبٍ ذاق المصائب والويلات والحروب أن يبقى؟ كيف لشعبٍ رابضٍ في ‘أرض دوّامة النزاع’، أن لا يتمكن أحد من أن ينتزع منه كرامةً، ولا خنوع، ولا خضوع. شعبٌ يبكي أولاً، ومن ثم يضمد جراحه على عجل، ويسير، يستمر، يمضي وكأن شيئاً لم يكن، أو كأن ما مضى ليس أكثر من عرض سينمائي وانتهى. شعب يمضي بدون توقف لأنه لا يريد أن يفوِّت المزيد من الفرص.
هل لأنّ ، في بيتنا الداء والدواء، دائنا من دوائنا، ودوائنا من علتنا، وطن يأبى أن يموت، وشعب أصبح متمرسا في مهنة خداع الموت، حتى ان الموت بدأ يتململ منه. شعب ينقذ ممن يحاول قتله، ويتملص من محاولته أن يقتل ذاته، غريب عجيب، لا يفهم له درب ولا سلوك. من هنا كان هذا الحوار ما بين مستشار في الشؤون التنظيمية والموارد البشرية وباحث وكاتب في مجال الإقتصاد الإجتماعي والقيادة شارل صليبا مع صديقته حول صمود أو خضوع الشعب اللبناني .
سألتني صديقتي: كيف يمكن لهذا الشعب أن يتأقلم بهذه السرعة ويستمر؟ جوابي لها أتى في باقةٍ ثلاثية؛ وعسى أن أكون قد وفيت السؤال جواباً لائقاً.
اولاً، التاريخ والجغرافيا. في بقعة التقاء التجار والحضارات، التقت أيضاً النزاعات. مصالح الشرق والغرب، وأساطير طريق الحرير، وألغاز المشرق القديم. كلها التقت لتتنازع على هذا الممر، على هذا الجسر الطبيعي بين شعوب الأرض. التقت ليس لذهب او ماس، ولا لنفط أو نحاس، بل لأرض خصبة بالفكر والفلسفة، قادرة على الوصول الى أبعاد مستحيلة في التجارة، والسياسة، والانسانية. فأقوى ما في الفكر هو قدرته على اختراق الجغرافيا الطبيعية، وأقوى ما في الفلسفة هي أنها قادرة على تملّك العقول. وفي لجة هذه النزاعات، ما كان من هذا الشعب إلا أن يتأقلم حتى يستمر، ومازال يفعل هذا الأمر حتى يومنا هذا. التأقلم يأتي من الانفتاح، والانفتاح يأتي من القدرة على التأقلم. هكذا تعلّم أجدادنا، وهكذا تعلمنا نحن أن ننفتح على الآخرين لحاجة تجارتنا، ولنتعامل مع نزاعات الآخرين على أرضنا، ولنستمر حتى عندما تأتينا المصائب من الداخل. نحن نتأقلم لنخدم حاجتنا الغريزية للبقاء، نتأقلم مستخدمين الفكر والفلسفة لنحقق أهدافنا. لم تكن ولو لمرة واحدة قوّتنا بالسلاح، بل بالحنكة. ليس للتاجر أن يصنع الأعداء، بل فقط الاصدقاء، حتى ولو كانوا أعداءً. وهكذا نحن، على شاطئ هذا المتوسط امتهنا التأقلم منذ آلاف السنين لنستمر؛ واستمرينا دون منازع حتى اليوم.
ثانياً، الفرادة والتفرد. التجارة وروح الفريق، لا يلتقيان. لقد درّبنا جيناتنا على العمل كأفراد منذ القدم، وعمَلَنا كفريق كان للحاجة فقط. عمل الفريق في التاريخ اتى من الشعوب المحاربة التي تمتلك الجيوش، أما نحن فكل ما كنا نبتغيه هو أن نبيع ما انتجنا أو ما أنتجه غيرنا، ونتمتع بقطعة السماء التي وهبنا إياها الخالق. وقد علّمنا هذا الأمر ألا نتكل إلا على ذاتنا. فإذا كنت تاجراً، لا وقت للضياع، ولا لانتظار وعود الآخرين. لا وقت لانتظار الدولة، ولا القانون، ولا السياسيين، ولا الاحزاب، ولا الكهرباء، ولا الماء، ولا الطرقات، بل فقط الاتكال على الذات. أصبحنا فريدين في إيجاد الحلول – وهذا الأمر هو القلب النابض للتأقلم – ومتفردين في تبني الخط الذي يناسبنا ويناسب طموحنا، وهكذا امتهنا الفرادة والتفرد حتى لا تعيقنا مشاريع الآخرين.
ثالثاً، الإيمان. بغض النظر إذا كنت مؤمناً أم لا، فإن الطاقة الايجابية والاتكال والتسليم الذي يولدهم الإيمان، لا يمكن لشيء أن يتغلب عليهم. الإيمان يبني الصبر، ويمنح الرجاء والامل، ويضمد الجراح، ويشجع على المضي قدماً إيماناً بوعد الله. كل هذه الأمور الإيمانية تصب في خانة بناء القدرة على التأقلم. إيمان هذا الشعب هو طائر الفينيق بحد ذاته. الإيمان هو الذي يجدد هذا الشعب ويمكّنه من خداع الموت؛ إيمان هذا الشعب هو الذي يجعله ليناً كالغصن وقاسياً كالصوّان؛ إيمان هذا الشعب هو العنصر الذي لا يمكن لفكر أن يبتزه، ولا لمحتلٍ أن يسحقه، ولا لعدوٍ أن يقتله. إيمان هذا الشعب هو إكسير البقاء والاستمرار في وجه المستحيل.
بكل بساطة، هكذا يتأقلم هذا الشعب. نحن يا صديقتي متأقلمين جينياً، وفكرياً، وإيمانياً. نحن شعب أثخنه الزمن بالألم، وآثار الجراح المضمدة أصبحت أكثر من المساحات السليمة في فكره وجسده، فما بالنا نسأل “كيف يمكن لها الشعب أن يتأقلم؟”. نحن يا صديقتي أصبحنا للألم ألماً، وللنزاعات نزاعاً، وللمشاكل وجعاً، وللموت قيامةً، بالفعل وليس بالقول. أنظري حولك في الطرقات والأبنية، في الساحل والجبل، في الجنوب والشمال، في الأحياء الفقيرة وأبراج العاج، في المدارس والمستشفيات، في المصانع والمتاجر، سترين شعباً متألماً، نعم، ولكن إذا حدقت جيداً سترين شعباً لا يعرف إلا الحياة سبيلاً للعيش، والتأقلم وسيلة للبقاء،، ولا يمكن لشيءٍ أن يوقفه عن ممارسة هذا المعتقد من الآن وإلى ما شاء الله.