بقلم الدكتور نبال موسى
ذكرتني الأحداث الأخيرة التي يمر بها السودان بقصة رواها لي أحد أبطالها، لا بل البطل الرئيسي فيها وهو كان في ذلك الوقت مديرا لتحرير مجلة من المجلات العربية التي كانت تصدر في باريس بتمويل عراقي.
قال إنه ذهب الى السودان ايام حكم الرئيس جعفر النميري لإجراء مقابلة صحفية معه. وتمّت المقابلة على أفضل ما يرام، ويبدو أن الكيمياء فعلت فعلها بين الرجلين، فعرض الصحفي المشار إليه على النميري أن يكتب له مذكراته، وأقنعه بأن ذلك سيكون حدثا عربياً مهماً وسيبقى ذكرى تخلّد اسمه في تاريخ السودان والأمة العربية…
المهم هو أن النميري دهش من الفكرة وسأل: كم يكلّف كل هذا؟ فأجاب صاحبنا بأن هذا العمل يتطلب الكثير من البحث والتسجيل والتصوير والتنقيح والطبع الخ… وطلب خمسة ملايين دولار.
لم يندهش النميري من المبلغ، بل وافق قائلاً للصحفي المنافق: سأتفق معك على شيء، أعطيك عشرة ملايين دولار على ان تحوّل خمسة منها الى حساب تملكه زوجتي في لندن، وأن تشتري شقة في باريس تسجلها باسمها وتحتفظ بالباقي لك لقاء كتابة المذكرات، وحذار أن يعرف أحد بهذا الموضوع لأن حياتك ستصبح في خطر. فوافق الصحفي المشار اليه وأخذ في اليوم التالي الشيك الذي لم يكن بالطبع من حساب النميري الخاص بل من أموال الدولة السودانية وعاد الى باريس.
ومضت أيام وهو يتأرجح ـــ والكلام له طبعاً ـــ بين شفط المبلغ كاملاً أو الالتزام بالاتفاق. خلال هذه الايام كان يتلقى يوميا الاتصال تلو الاتصال من زوجة النميري تسأله عن التحويل، وكان يتحجج بأن الوقت لم يسمح له بعد للذهاب الى جنيف ليضع الشيك في حسابه هناك قبل التحويل، وأنه منهمك كثيرا بإعداد المقابلة للنشر الخ… حتى غضب النميري وتوعّده شراً إن لم يتم تحويل المبلغ خلال يومين. فقرر صاحبنا إتمام الصفقة وسافر في اليوم نفسه الى جنيف التي وصلها في المساء. قال: نزلت في الفندق ولم أنم الليل، ففكرة شفط المبلغ كاملا كانت لا تزال تراودني، لكنني كنت أفكر أيضاً في ما يمكن أن يفعله النميري، فهو قادر على أن يرسل اليّ من يقتلني مثلا…
وأضاف: “صباح اليوم التالي خرجت من الفندق متوجهاً إلى البنك، وعندما وصلت إليه قلت في نفسي سأشرب فنجان قهوة في مقهى كان هناك وأقرر بعدها. ثم لاحظت أن كشكاً لبيع الصحف موجود على بعد خطوات، فارتأيت شراء صحيفة “الشرق الأوسط” أقرأها مع القهوة، وما أن ألقيت أول نظرة على صفحتها الأولى حتى صعقت صعقة مفرحة لا مثيل لها. فقد كانت المانشيت: إنقلاب عسكري في السودان والإطاحة بالنميري.”
وقهقه طويلا ثم قال لي: لقد كانت أجمل مانشيت قرأتها في حياتي، فدخلت البنك ووضعت العشرة ملايين دولار في حسابي.”
وما دمنا في سيرة النميري فقد قابله أيضا زميلي في مجلة “المستقبل” شكري نصرالله وحكى لنا أن النميري دعاه بعد المقابلة للقيام بجولة ليلية في الخرطوم. وركبا سيارة عادية قادها النميري ولحقت بهما سيارة مرافقة. وعند احد حواجز الجيش أوقف الجندي المكلف بالتفتيش سيارة النميري ولم يتعرف عليه وطلب منه أوراقه الثبوتية. فضحك النميري وقال له: أنا النميري. ويظهر ان الجندي لم يسمع جيداً ولم ترق له الضحكة فأعاد طلب الأوراق بلهجة قاسية، فما كان من النميري إلا أن قال له بغضب وصوت عال: أنا النميري يا حمار! فارتعد الجندي المسكين وأدى التحية وهو يرتعش وكاد يقع أرضاً من شدة الخوف.
هكذا هي أمتنا، سرقة، احتيال، إرهاب، صراعات، خوف، فقر…. وجوع!
اليوم يتكرر كل هذا وذاك في السودان وغيره. فيقال إن الدولة الفلانية الخليجية تدعم “الدعم السريع” لأنها تطمع في الذهب الكامن في المناطق التي يسيطر عليها، وأخرى تدعم قائد الجيش طمعاً في بترول “دارفور” والطامعون كثر… أعان الله شعب السودان.