من المشاريع الإعلامية التي ساهمت في تأسيسها فنجح بعضها ولم يكتب النجاح لبعضها الآخر مشروع إصدار جريدة ساخرة وناقدة على شاكلة الجريدة الفرنسية الشهيرة “لو كنار أنشينيه”، وسأحكي لكم قصتها.
كان ذلك بعدما خرجتُ من مجلة ” المستقبل” التي كانت تصدر في باريس إثر أزمتها المالية التي سرعان ما أدّت إلى إقفالها بعد عدة أشهر عام 1989.عُرِض عليّ العمل في مجلة “كل العرب”، لكنني فضّلت الاستراحة بعض الوقف ودراسة الموقف.
في ذلك الوقت، اتصل بي شخص لن أذكر اسمه لأنه لم يعد من هذا العالم، كنت التقيته عدة مرات من قبل في مجلة “المستقبل” حيث كان يحب الصحافة ويتردد على المجلة لعل وعسى. قال إنه ينوي إصدار مجلة أسبوعية ساخرة ويود أن أتعاون معه في هذا المشروع فأكون مديرا للتحرير. سألته عن التمويل فقال إن التمويل سيأتي من ليبيا. ترددت كثيراً بادئ الأمر قبل أن أوافق شرط أن لا يظهر اسمي على الجريدة، فوافق. أما سبب موافقتي فلأنني كنت دائماً أتمنى الكتابة في منبر من هذا النوع يسمح لي بالتنفيس عن غضبي وما يختزنه قلبي من نقد لعشرات القضايا والشخصيات السياسية في عالمنا العربي.
وبالفعل، بعد عدة أسابيع من الدراسة والاتصالات والإعداد، قررنا أن يكون اسم الجريدة ” الدبور” وهو نفس اسم المجلة اللبنانية الساخرة والشهيرة والمتوقفة عن الصدور منذ سنين طويلة، على أن تكون من ثماني صفحات، ووضعنا لها أبواباً طريفة وأسماء أكثر طرافة، فكان عنوان الافتتاحية مثلاً “أول لسعة” وعنوان التعليق العربي ” من دون شك” والصفحة الثقافية “أخبار الفكر في زمن القهر” وهكذا…
ومن الزوايا الرائعة تلك التي كان عنوانها “المقامة الدبورية” والتي كان يكتبها احد الصحافيين السوريين على نمط مقامات بديع الزمان الهمداني، وكانت من أنجح الزوايا وأكثرها طرافة. ويمكن قراءة عدة أسطر من إحداها بتكبير الصورة المرفقة.
اتفقنا مع عدد من الزملاء للكتابة فيها وكان من بينهم الزميلان عبد الهادي محفوظ الذي أصبح رئيس الهيئة الوطنية للإعلام في لبنان، وحسن حمادة وغيرهما. وأذكر انه جاءني أثناء فترة الإعداد شاب في مقتبل العمر يخطو خطواته الأولى في الصحافة، راغبا في التعاون معنا وهو الزميل سامي كليب الذي أصبح فيما بعد صحفيا مرموقاً مثقفاً ولامعاً وصديقاً. قلت “صحفياً” ولم أقل “إعلامياً” لأنني أكره هذه الصفة، وسيأتي يوم أكتب مقالاً حولها.
كما اتفقنا مع رسام الكاريكاتور الفنان حبيب حداد وهو الذي رسم “دبورها” فوق العنوان وفي أماكن أخرى، ومع رسام آخر لم أعد أذكر اسمه. أما اسم الجريدة فقد خطه الخطاط العراقي المعروف محمد سعيد الصكار.
وبالفعل، صدر العدد الأول ثم الثاني في نوفمبر 1992، وبعدها بأيام استمعت إلى مكالمة هاتفية بين صاحب المشروع ومدير مكتب القذافي، وفهمت ما لم يفهمه هو من أن الأموال الليبية الموعودة لن تأتي، وأدركتُ أن المشروع وُلد ميتاً، فانسحبت بأقل ما يمكن من الخسارة المادية والمعنوية، وتوقف “الدبور” بعد عدة أسابيع بعدما “لسع” عدداً من الزملاء المتعاونين.
كانت “الدبور” تجربة طريفة حبذا لو طالت لكنا استطعنا من خلالها إطلاق العنان لنقدنا الساخر لمئات القضايا التي كانت تنخر مجتمعاتنا العربية ولا تزال حتى أصبحت هذه المجتمعات ” وكر دبابير” تتلاسع فيما بينها بلا حسيب ولا رقيب.