يستمر الاتجاه النزولي لأسعار النفط شهوراً متتالية، وانخفضت الأسعار بمقدار الثلث منذ يونيو/حزيران الماضي. وانهارت الأسعار أخيراً بعد قرار “أوبك” الإبقاء على سقف الإنتاج دون تغيير عند 30 مليون برميل يوميا، رغم وفرة المعروض النفطي في الأسواق، في حين كان يتوقع أن تعلن خفضاً للإنتاج لتعزيز الأسعار. وخسر سعر برميل النفط الأميركي الخفيف 7.54 دولارات ليصل إلى 65.69 دولاراً وهو أدنى مستوى له منذ سبتمبر/أيلول 2009. أما سعر برميل برنت الأوروبي فقد هبط إلى ما دون عتبة الـ 70 دولاراً للمرة الأولى منذ 4 أعوام ونصف العام بحيث سجل 69.78 دولاراً وهو أدنى مستوياته منذ 26 مايو/أيار 2010.
ينجم انخفاض أسعار النفط عن انتقال للثروة من البلدان المنتجة إلى البلدان المستهلكة، متمثلة بكبرى الاقتصادات العالمية مثل الولايات المتحدة ومنطقة اليورو واليابان والصين. وتحصل الشركات كذلك على هامش أكبر وتتحسن القدرة الشرائية للمستهلكين. فأسعار الوقود في محطات الوقود الفرنسية، على سبيل المثال في أدنى مستوى منذ أربعة اعوام.
ويقول باتريك ارتوس، الاقتصادي لدى مؤسسة “كاتيكسيس”، إن منطقة اليورو يمكنها بفضل تراجع أسعار النفط “أن تستفيد من الأثر الإيجابي لتراجع اليورو على صادراتها من دون أن تتأثر بسبب ارتفاع أسعار الواردات”، وأن تأمل في كسب نصف نقطة في ناتجها المحلي الإجمالي خلال سنتين.
ويشير معهد “كو ركومنس” إلى هبوط فاتورة الطاقة الفرنسية بـ 5 مليارات يورو على الأقل خلال 2014، موضحاً أن الصناعة هي الرابح الرئيسي ويتوقع أن تكسب ملياري يورو، أي أكثر من التسهيلات الضريبية من أجل تشجيع تنافسية التوظيف، التي تعتمدها الحكومة الفرنسية أساساً للإنعاش الاقتصادي.
ويقدر المحلل الاقتصادي لدى مؤسسة “أي بي إن أمرو” أن ما ستكسبه الدول المستوردة سيرفع نمو الناتج المحلي الإجمالي العالمي بمقدار 0.7 %.
من هم الخاسرون؟
توضح وكالة “ستاندرد آند بورز” للتصنيف الائتماني في تقرير عن منطقة الخليج إن “التراجع الأخير في سعر المحروقات، وفي حال استمراره لفترة طويلة، سيكون له تأثير كبير”. وتشكل العائدات النفطية لدول مجلس التعاون الخليجي الست 46 % من الناتج المحلي الإجمالي. واعتبرت ستاندرد آند بورز سلطنة عمان والبحرين الأكثر تأثرا.
ويقول الاختصاصي في الأسواق الناشئة لدى مصرف “إتش إس بي سي” كريستيان ديزيغليز إن نصف الدول الناشئة ستتأثر سلباً بتراجع أسعار النفط. فالبرازيل استثمرت بكثافة في المنشآت والبنى التحتية النفطية التي سيكون من الصعب عليها استعادتها، كما حددت روسيا ميزانيتها على أساس سعر مائة دولار للبرميل. لكنه يضيف أن “التراجع الكبير في سعر الروبل سيخفف الضغوط على الميزانية”. وتبدو المؤشرات كلها سلبية في فنزويلا التي تعاني أساساً، اختناقاً مالياً، ويشكل النفط 96% من مصادرها من العملة الصعبة. كذلك يؤثر تراجع النفط على استخراج الوقود الصخري في الولايات المتحدة الذي يحتاج لاستثمارات ضخمة للحفاظ على وتيرة الإنتاج. ويعتبر المحللون أن الاستثمار في الوقود الصخري ليس مجدياً عندما يكون سعر برميل النفط بين 65 و70 دولاراً.
خطر الانكماش
الانكماش هو دوامة من انخفاض الأسعار والعائدات تؤدي إلى شلل اقتصادي. وهذا الخطر جاثم تحديداً على منطقة اليورو، حيث تراجع التضخم إلى 0.3 % في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي. لكن المدير العام لمؤسسة “ريكسكود”، دوني فران يقول “إن لانخفاض سعر النفط تأثيراً إيجابياً على القدرة الشرائية وعائدات الشركات أكثر منه تأثير باتجاه إلى الانكماش”.
والسؤال المطروح “هل ستحتفظ الشركات في هذا التأثير الإيجابي باعتباره هامشاً للتحرك، أم ستستفيد منه لمزيد من خفض الأسعار؟”. وهذا سيدخلها في دوامة خطرة؟.
المركزي الأوروبي
يسعى البنك المركزي الأوروبي للحيلولة دون دخول منطقة اليورو في الانكماش. ويوضح المحلل لدى مؤسسة “سي إم سي ماركتس” البريطانية، مايكل هيوسون “أنا واثق من أن رئيس البنك المركزي الأوروبي ماريو دراغي كان يأمل سراً في أن تساعده أوبك بالإعلان عن خفض كبير في الإنتاج ما يؤدي إلى زيادة أسعار النفط ورفع التضخم في واردات منطقة اليورو”.
ويقول المحللون إنه “بالإبقاء على سقف الإنتاج كما هو، على العكس من ذلك زادت “أوبك” من احتمال اتخاذ البنك المركزي الأوروبي تدابير جديدة مهمة”.
الحال المالية المتردية في أوروبا
هبطت أسعار النفط على نحو لم يسبق له مثيل منذ أعوام نتيجة عوامل اقتصادية وسياسية. يقود هذا الوضع إلى تحسن الحال المالية المتردية في أوروبا، لكن لا يجوز المبالغة في مكاسبه. ويفترض أن يقود انخفاض أسعار النفط إلى دعم القوة الشرائية فيرتفع الاستهلاك وتتحسن معدلات النمو، وتالياً تزداد الاستثمارات وفرص العمل.
يسجل الميزان التجاري لدول الاتحاد الأوروبي فائضاً طفيفاً، ففي عام 2012 بلغت صادراته 4019 مليار دولار ووارداته 3957 ملياراً (إحصاءات التجارة الدولية لمنظمة التجارة العالمية لعام 2013). وإذا كانت ألمانيا تحقق فائضاً بمبلغ 240 مليار دولار فإن فرنسا تسجل عجزاً مقداره 105 مليارات دولار.
لما كانت أوروبا تستورد الجزء الأكبر من حاجاتها النفطية، فإن هبوط أسعار الخام يعني انخفاض الاستيراد وتالياً يرتفع الفائض في بعضها ويتقلص العجز في بعضها الآخر. فقد بلغت الواردات النفطية الأوروبية 531.7 مليون طن في السنة. ونظراً إلى هبوط سعر البرميل من 111.8 دولاراً في أبريل/نيسان إلى 82.7 دولاراً في أكتوبر/تشرين الأول فإن مبلغ الواردات السنوية سينتقل من 427.9 مليار دولار إلى 316.5 ملياراً، وستوفر أوروبا إذن 109.6 مليارات دولار خلال سنة أي ما يعادل 86.2 مليار يورو.
من هذه الزاوية المالية البحتة ستكون ألمانيا المستفيد الأكبر حيث ستوفر 22.1 مليار دولار، الأمر الذي يرفع فائضها التجاري، تليها فرنسا التي ستوفر 16.9 ملياراً فينخفض عجزها التجاري، ثم إسبانيا (12.3 مليار دولار) فإيطاليا (11.6 مليار دولار)، عندئذ ترتفع الاستثمارات ويتحسن النمو، ناهيك عن ازدياد الثقة بالسياسة الاقتصادية المتبعة. يسهم هذا التطور في معالجة الأزمة الاقتصادية الحالية.
كذلك قاد عجز الميزانيات العامة المصحوب بتباطؤ النمو إلى ارتفاع هائل ومستمر للديون العامة، وبات حجمها يتجاوز الحد الأقصى المسموح به في ميثاق الاستقرار والنمو وهو 60 % من الناتج المحلي الإجمالي، وشمل التجاوز أقوى اقتصاد أوروبي، فقد بلغت ديون ألمانيا 81 % من الناتج المحلي الإجمالي لعام 2013، وترتفع النسبة في فرنسا والبرتغال وإيطاليا لتصل في اليونان إلى 175 %.
يعكس تراكم هذه الديون العامة مدى خطورة الأزمة المالية، وباتت البرامج الإصلاحية لجميع الدول الأوروبية ترتكز على ضرورة التخفيف من حدتها، وينتظر أن يحقق انخفاض أسعار النفط نتائج أفضل من تلك التي نجمت عن هذه البرامج. سترتفع الدخول والاستهلاك وعندئذ تزداد حصيلة الضرائب المباشرة وغير المباشرة فتتحسن إيرادات الدولة ويهبط تالياً العجز المالي، وسيقود هذا الهبوط إلى انخفاض الديون العامة.
أما الشركات الأوروبية الكبرى المستهلكة للنفط لا سيما شركات النقل، فقد حققت نتائج إيجابية إثر تراجع أسعار النفط. وتعتبر شركات النقل الجوي من كبار المستهلكين حيث يمثل الوقود العنصر الثاني من نفقاتها بعد مرتبات موظفيها وعمالها، فحسب التقرير رقم 10 لسنة 2014 الصادر عن الاتحاد الدولي للنقل الجوي يستحوذ الوقود على 30% من نفقات هذه الشركات. ووفق تقارير أخرى يُلاحظ أنه في عام 2011 بلغت كلفة الوقود لشركة إيرفرانس 6.4 مليارات يورو، ولشركة لوفتهانزا 7.5 مليارات يورو، وعلى هذا الأساس استفادت هذه الشركات على نحو كبير من هبوط أسعار الخام، لذلك ارتفعت في منتصف أكتوبر/تشرين الأول قيم أسهم جميع شركات النقل الجوي الأوروبية، على سبيل المثال ارتفعت قيمة أسهم لوفتهانزا بنسبة 2.7 % وإيرفرانس بنسبة 3.6 %.