بقلم الدكتور نبال موسى
في العام 1968 كنت أدرُس في جامعة القاهرة في كلية الآداب، في السنة الثانية في قسم اللغة العربية. كنت يومها في الثانية والعشرين من العمر، وكنت رياضيا أعشق الكرة الطائرة وكان قد تم اختياري في أيار من العام السابق عضواً في منتخب لبنان في هذه اللعبة.
في ذلك العام، أقيمت بطولة الجامعة في الكرة الطائرة، ووصل فريق كلية الآداب الذي كنت رئيسه إلى المباراة النهائية ضد فريق كلية الهندسة. في الجولة الأخيرة كنا متعادلين حتى لحظات قبل انتهاء المباراة عندما أخطأ الحكم محتسبا نقطة لصالح فريق الهندسة أدت إلى فوزه بالمباراة والبطولة، فلم أتمالك نفسي إذ شتمته على الطريقة اللبنانية بقولي: “يلعن دينك شو حمار” !
وفوجئت بعد أسبوع برسالة تستدعيني إلى التحقيق مع أحد مسؤولي شؤون الطلاب حول هذه الحادثة. ذهبت وحقق معي، وعلمت منه أن الحكم اللعين كتب تقريراً قاسياً قال فيه من ضمن ما قال: ” … مع العلم أن هذا الطالب الذي شتم ديني هو مسيحي ويحمل في عنقه سلسلة فيها الصليب”.
أخبرني المسؤول أن هذا الموضوع خطير وأن محاكمة لي ستجري وقد تؤدي بي إلى الطرد من الجامعة، لكنه قال إنه يمكنه “تلطيف القضية”. فشكرته بسذاجة الشاب غير الخبير، لكن شكري لم يكفِه فاضطر إلى التصريح بمعنى “التلطيف” الذي يقصده، وطلب ” كروز مارلبورو”. و”كروز المارلبورو” في تلك الأيام كان ثمنه مبلغاً مهماً ويعتبر هدية ثمينة لأن الجمارك على السجائر
الأجنبية كانت مرتفعة جدا أيام الرئيس عبد الناصر. المهم أنني اشتريت “كروز المارلبورو وعدت إليه فوعدني خيراً، فخرجت أنتظر يوم المحاكمة.
وتشاء الصدفة ـــ والصدفة أحياناً خير من ألف ميعاد ـــ أن يكون أحد الأستاذين اللذين انتُدبا من قسم اللغة العربية ليكونا عضوين في لجنة المحاكمة أستاذي الدكتور كمال بِشر إضافة إلى أستاذي الآخر الناقد الكبير الدكتور شكري عياد. فالدكتور بِشر كان ذكر لنا مرة خلال إحدى محاضراته أنه أقام في لبنان عاماً كاملاً أثناء إعداده للماجستير لغرض دراسة اللهجة اللبنانية مقارنة باللغة الفصحى. ومن بين الأمور التي أذكر أنه حدثنا عنها مخالفة اللهجة اللبنانية قاعدة اللغة الفصحى التي تقول: لا يُبتدأ بالساكن ولا يوقف على متحرّك”. ففي اللهجة اللبنانية يمكن أن نقول مثلا: ” بدنا نْجرّب” بتسكين النون أو “لازم تْقول” بتسكين التاء وهذا كله مخالف لقاعدة الفصحى حيث لا بد من قول “نُجرب” بضم النون و”تَقول” بفتح التاء.
المهم هو أن الدكتور بشر رحمه الله أخبرني باختصار بمجريات المحاكمة التي جرت من دون استدعائي للدفاع عن نفسي وكان هذا أمراً غريباً، إذ أخبر أعضاء المحكمة إنه عاش في لبنان وأن سبّ الدين في لبنان أسهل من شربة الماء، وليس له أي معنى ديني أو طائفي في الواقع. فالمسيحي يمكن أن يقول للمسيحي أو للمسلم مثلا وبكل بساطةً: “يلعن دينك شو غليظ” والمسلم كذلك. كما أن اللبناني يقول مثلاً عن طبق لذيذ: يلعن دينو شو طيب، وعن شخص كذاب: يلعن دينو شو كذاب، وعن فتاة جميلة: يلعن دينها شو حلوة وهكذا. فهذه العبارة ليس لها أي مغزى ديني أو طائفي، بل تعني ببساطة أن الطبق لذيذ جداً وأن الشخص كذاب جداً وأن الفتاة جميلة جداً.
وهكذا، تمّت تبرئتي، ولولا صدفة اختيار الدكتور بِشر ومعرفته بلبنان ومرافعته لربما كان الطرد من الجامعة من نصيبي، ولكانت حياتي كلها قد تغيّرت.