عندما أسسنا إذاعة الشرق، الزميل رغيد الشماع وأنا، اتصل بنا رجل من المخابرات الفرنسية اسمه برنار، علمنا فيما بعد أنه من قسم الصحافة والإعلام، وطلب لقاءنا، ثم حضر ومعه أحد زملائه. سألانا عن الأهداف والتمويل والتوجهات وما إلى ذلك… فإنشاء إذاعة عربية في باريس ليس بالأمر البسيط نظرا لضخامة وحساسية الجاليات العربية في العاصمة الفرنسية وضواحيها.
كتبت هذه المقدمة القصيرة لسبب سيظهر في آخر هذا المقال.
لم أعد أذكر في أي سنة من التسعينات اتصل بي صاحب ورئيس تحرير مطبوعة عربية تصدر في باريس طالباً لقائي. التقينا في اليوم التالي حوالي الساعة السابعة مساء، وعرض عليّ أن أترك عملي وأتسلّم إدارة تحرير مطبوعته براتب مغرٍ لأنه مُتعَب ويريد التفرغ للعلاقات العامة والسفر وما إلى ذلك، وبدأ يسهّل عليّ الأمر من دون أن يسمع مني كلمة واحدة أو موافقة مبدئية ، وانطلق يشرح لي مصادر المعلومات والملفات السرية التي تجتذب الكثير من القراء، إضافة إلى مصادر التمويل…
قال إن الكثير من أخباره الخاصة التي يتفرد بها تصله من السفارات العربية في باريس ومن “جواسيس” في أماكن أخرى من الدول العربية، فله “جاسوس” في السفارة السعودية يقدم له أسبوعيا أخباراً سرية عن المملكة ورجالاتها، وله “جاسوس” في سفارة الإمارات وآخر في السفارة السورية…إلى ما هنالك. أما بالنسبة للملفات السرية فهو يستقيها من أجهزة المخابرات حيث له علاقة وصداقات. ثم فتح الدرج وأخرج منه ملفاً أبرزه لي من بعيد قائلاً: هذا الملف مثلاً استحصل عليه ف.ح. من الأجهزة وباعني إياه بثلاثة آلاف فرنك، وبالفعل رأيت عليه ختماً باللون الأحمر يقول ما معناه “سري للغاية”. فقلت له: طالما لك علاقاتك كما تقول، فلماذا لم تحصل عليه أنت وتوفّر المبلغ؟ فرد بابتسامة عريضة قائلاً: لا، هو مع فرع آخر! ثم تحدث عن التمويل وذكر أشخاصاً يدفعون له شهرياً لم أعد أذكر منهم سوى رفعت الأسد الذي قال أنه يعطيه 50 الف دولار.
لم أشأ حسم الموضوع في ذلك اللقاء مع أن قراري بالرفض كان قد اتُخذ، بل قلت له دعني أفكر في الأمر عدة أيام، فوافق. خرجت من مكتبه وأنا انظر يميناً وشمالاً خوفاً من أن يراني أحد يعرفني خارجاً من هذا الوكر الموبوء.
في صباح اليوم التالي رافقت صديقاً لي من الإمارات إلى مركز المحافظة الرئيسي قرب كاتدرائية نوتردام لأساعده في الحصول على تأشيرة دخول جديدة كونه لا يجيد اللغة الفرنسية. فقد كان استحصل على تاشيرة دخول واحدة، لكنه أحب السفر إلى المغرب ثم العودة إلى باريس، وكان لا بد إذن من تأشيرة دخول جديدة. وتشاء الصدفة أننا ما إن دخلنا إلى مركز المحافظة حتى التقينا ببرنار المذكور في أول المقال وإذا به يقول لي وهو يكمل طريقه داخلاً إلى أحد المكاتب: مبروك، ستعمل في مطبوعة فلان؟ ذُهلت! فكيف وصل خبر اللقاء إلى المخابرات ولم تمضِ عليه إلا ساعات معدودة؟ ومَن قام بذلك؟
أنهينا موضوع التأشيرة، وفور عودتي إلى المنزل اتصلت معتذراً عن قبول العرض، وأصبحت لفترة طويلة أخجل من أن أقول إنني صحفي، وصرت أقول إنني موظف في دار للنشر!