اعداد عمر الناطور
ست سنوات حفلت بالكثير من المحطات على الطريق الذي أعلن عنه الرئيس ميشال عون ، بتاريخ 21 سبتمبر (أيلول) 2020، بأن «لبنان ذاهب إلى جهنم»، فإذا به يسير بخطوات كارثية نحو الانزلاق إلى هاوية جهنم.
فما شهده لبنان من انهيار اقتصادي ومالي كامل وفَشل في الإدارة السياسية والاقتصادية، لم يحصل لأي دولة في العالم خلال التاريخ الحديث إلا في قلّة من الدول الفاشلة. ولم تفلح جميع الإجراءات الاقتصادية والمالية المجتزأة التي اتخذتها الحكومات أو التعاميم الصادرة عن القطاع المصرفي منذ أكتوبر (تشرين الأول) 2019 سوى بإضافة المزيد من التشوهات الاقتصادية والمزيد من الهدر والفساد إلى نظام اقتصادي يتّسِم أساساً بالفساد وعدم الاستدامة.
لم يكن يساور اللبنانيين شك، في أنهم أمام ارتطام جديد بقعر أعمق للأزمة الاقتصادية التي يعيشون فصولها منذ بداية عهد ميشال عون، فالمظاهر الدراماتيكية للانهيار السريع الذي يضرب البلاد، باتت أوضح من أن يغفل عنها أحد، تبدل حال السكان بين الساعة والأخرى، نحو الأسوأ على الأغلب، يخسرون أموالهم، يفقدون طعامهم، ووقودهم ويضرب الانهيار نظامهم الصحي والاجتماعي والقضائي أمام أعينهم على مدى النهار، دون أي جهود تجدي في كبحه.
نكبات في العهد القوي
وقد شهد هذا العهد الذي أطلق عليه «العهد القوي»، أسوأ أزمة اقتصادية، صُنفت الثالثة عالمياً خلال 150 عاماً، والأكثر سوءاً مُنذ استقلال لبنان.
كما شهد انهيار سعر صرف الليرة اللبنانية أمام العملة الأجنبية، فارتفع الدولار من 1507 ليرات ليلامس 40 ألف ليرة – أي بمُعدل 25 ضعفاً.
وشهد ارتفاعاً غير مسبوق لأسعار المواد الأساسية، وفقدان الكثير منها، بما في ذلك، الحليب والدواء.
واستمر انقطاع التيار الكهربائي، على الرغم من إنفاق أكثر من 45 مليار دولار أميركي على هذا القطاع، مع توقف مُحركات مُولدات اشتراكات الكهرباء عن الدوران، بفعل نُدرة مادة المازوت، وانعكاس ذلك على المياه والإنترنت.
وعرف اللبنانيون في هذا العهد طوابير السيارات، التي اصطفت أمام محطات الوقود، جرّاء فقدان مادة البنزين، وما وقع من حوادث، أدت إلى سقوط ضحايا.
القطاع المالي
مارس الرئيس عون وحلفاؤه سياسة المحاور مما أغضب المجتمع الدولي والعربي، ففُقِدت الثقة بالدولة اللبنانية، مما أوقف تدفقات النقد الأجنبي إلى الداخل وخرج الدولار من لبنان، واندلعت ثورة شعبية لم تستطع إسقاط السلطة اللبنانية التي اتبعت معادلة «السلاح يحمي الفساد».
ولم يعد لدى المصارف ما يكفي من الدولارات للدفع للمودعين المصطفين خارجها، فأغلقت أبوابها. وانهارت العملة من 1500 ليرة مقابل الدولار إلى نحو 39 ألفاً في السوق السوداء اليوم. وفاقم من المشكلات، الانفجار الذي وقع في مرفأ بيروت في 4 أغسطس (آب) 2020 وقد سبّب خسائر بمليارات الدولارات.
فما الذي حصل في القطاعات الحيوية فانهارت على نحو شامل وكارثيّ في هذا العهد؟
قطاع الكهرباء
لم يكن قطاع الكهرباء يوماً نموذجياً في لبنان، لكن الانهيار الذي انحدر إليه مؤخراً لم يسبق أن وصل إليه سابقاً حتى في ذروة أيام الحرب، ومنذ اتفاق الطائف حتى اليوم تعاقب 16 وزيراً على وزارة الطاقة، بينهم 6 وزراء محسوبين على التيار الوطني الحر، أي حزب الرئيس، وقد اعتمد هؤلاء سياسة كهربائية كبّدت الدولة سنوياً نحو ملياري دولار عجزاً للكهرباء، نتيجة إرهاق المؤسسة بكلفة البواخر، ومقدمي الخدمات، والاعتماد على شركات الصيانة وتشغيل المعامل، مما نتج عنه استنزاف ماليتها، فكلّفت على مدار 10 سنوات نحو 20 مليار دولار ضاعفت عجز خزينة الدولة فـانهارت مالية الدولة وأفلست كهرباء لبنان، ولو ذهب البلد إلى استعمال الغاز لتوفير 400 مليون دولار سنويا!
قطاع الاتصالات
لا شك أن انهيار قطاع الكهرباء أثّر في قطاع الاتصالات الذي شارف على الانهيار أيضاً، والخطر الداهم يمكن أن يؤدي إلى العودة إلى المرحلة السابقة لاختراع شبكة الإنترنت، حيث تجتمع مجموعة عوامل وتفاصيل لتنتج مشكلة كبرى، بدءاً بأزمة سعر الدولار المتفلت من عقاله، مروراً بارتفاع سعر المازوت، وصولاً إلى ضعف مداخيل الشركات، وبالتالي عدم القدرة على تطوير الشبكة أو ملاقاة تقنيات الجيل الخامس.
قطاع الاستشفاء
الأسباب كثيرة لما آلت إليه الحال في قطاع الاستشفاء، لكن ما يجمعها كلها هي الأزمة الاقتصادية- المالية التي تتمدّد كخلايا سرطانية. إذ انسحب انهيار القدرة الشرائية لليرة على كل ما يخصّ هذا القطاع، سواء ما يتعلق بأسعار المستلزمات والمعدات الطبية التي بات معظمها يسعّر بالدولار أو بليرة السوق الموازية، أو ما يتعلق بفوارق فواتير الاستشفاء بين تعرفة الصناديق الضامنة وتعرفة الخدمات الطبية في المستشفيات.
عملياً، دخل القطاع الصحي الاستشفائي المرحلة الثانية من الانهيار: لا مستلزمات طبية. لا محروقات. لا مخزون لكل من هذه المتطلبات يكفي لمواجهة أي أزمة حادّة على شاكلة انفجارٍ ما أو عودة أزمة كورونا. يضاف إلى تلك اللائحة التي تُبعد القطاع الاستشفائي عن مواصفات ما كان عليه يوماً كـ«مستشفى الشرق الأوسط»، الهجرة المستمرة للأطباء والممرضات والممرضين مما أدى إلى إلغاء عدد من الخدمات الطبية وصولاً إلى إقفال أقسامٍ علاجية في بعض المستشفيات بشكل كامل.
قطاع التربية
الانهيار الاقتصادي الذي حلّ في لبنان في عهد الرئيس ميشال عون أرخى بظلاله على التعليم والمدارس على نحو مقلق، فأضحى الاستمرار في تقديم الجودة عينها مهدداً، خصوصاً مع انهيار سعر الصرف وفقدان الليرة اللبنانية نحو مائة في المائة من قيمتها.
أصبحت المدارس أمام خيارين، إما رفع الأقساط بنسبة عالية، وبالتالي رفع رواتب الأساتذة والعاملين لديها، وهذا ما يجعل عدداً كبيراً من اللبنانيين عاجزين عن إكمال تعليمهم في هذه المؤسسات، وبالتالي يجعلها تخسر طلابها وسبب وجودها، أو الاستمرار بقبض الأقساط من دون تغيير وأيضاً من دون تغيير في رواتب الأساتذة مما يدفعهم إلى هجرتها، وعدم تمكنها من استقطاب أساتذة جدد بالمستوى الأكاديمي عينه للحفاظ على جودة التعليم برواتب منخفضة.
واللافت أنه سجّلت هجرة كبيرة للمعلمين، وبالتالي دفع التلاميذ الثمن بسبب النقص في الطاقات. كذلك، سجّلت هجرة للتلاميذ من المدارس الخاصة إلى المدارس الرسمية من دون أن يكون لديها الإمكانات لاستيعاب هذا العدد الكبير وقد ضربت الأزمة لاحقاً القطاع الرسمي بفعل إضراب الأساتذة وتمنعهم عن مواصلة عملهم بسبب عجز السلطة عن تعديل رواتبهم أو حتى دفع مستحقاتهم!
خطر الانهيار يداهم الجيش والقوى الأمنية
تفيد بعض المصادر أن عدد الفارّين من الخدمة في الجيش اللبناني تجاوز عتبة الخمسة آلاف بين ضابط وعسكري، بينما لامس العدد 500 في قوى الأمن الداخلي وتجاوز العشرات في بقية الأجهزة الأمنية.
وتبدو هذه الأرقام مرشحة للارتفاع، في وقت تزداد فيه المخاوف من انهيار كبير للمؤسسة العسكرية والأمنية في حال قررت الحكومة اللبنانية السماح بتسريح العسكريين من الخدمة للتخفيف من الضغط على المصاريف الحكومية الشحيحة.
ومن المؤكد أننا سنشهد انهياراً شاملاً لكل القطاعات، وحالة خطيرة من الفراغ وارتفاعا هائلاً في أسعار المواد الأولية كالمحروقات والدواء والخبز والمواد الغذائية والمستلزمات الطبية.
بذلك يتسلل الانهيار الاقتصادي التاريخي إلى مختلف القطاعات في لبنان، ولعل أكثرها خطورة- وفق كثيرين- امتداده إلى المؤسسات والإدارات العامة التابعة للدولة، لارتباطها مباشرة بمصالح اللبنانيين. ولم يبادر الرئيس طيلة 6 سنوات من المبادرة رغم كل المطالب والمشاريع المقترحة، إلى تحديث أنظمة مأسستها ومكننتها، بما يتواءم مع تطورات العصر، لضمان استمراريتها بالأزمات، كتلك الواقعة منذ نحو عامين.
البعاصيري: انعدمت الرؤى لتفادي الانهيار الكبير
يعدد النائب السابق لحاكم مصرف لبنان الدكتور الأسباب والإجراءات التي اتخذت وأدت إلى هذا الانهيار في القطاع المالي والمصرفي، فيقول: «لقد أضاع المسؤولون الفرص العديدة لتفادي الأزمات المالية والمصرفية التي أدت إلى الانهيار الكبير، الذي تجلت صوره بعد السابع عشر من أكتوبر (تشرين الأول) من العام 2019. وضاع مؤتمر سيدر الذي رصد أكثر من 12 مليار دولار للبنان في غياهب المجهول، وكذلك كلفت سلسلة رتب ورواتب القطاع العام مليارات الدولارات، فاقت حوالي ثلاثة أضعاف ما تم تقديره من المسؤولين من العام 2016. وكذلك كان لحروب المنطقة تداعيات كارثية اقتصادية واجتماعية نتيجة اللجوء السوري المتعاظم والمقدر بحوالي 40 في المائة من المقيمين في لبنان».
ويضيف البعاصيري: «بالإضافة إلى ما تقدم انعدمت الرؤى لتفادي الانهيار الكبير، كان الانطباع السائد أن استقلالية مصرف لبنان مصانة إلى أكبر الحدود، وأنّ المصرف كان له أن يتصرف باستقلالية تامة عن إرادة الحكومات، الأمر الذي لم يكن ينطبق على واقع الأمور».
ويتابع: «لمواجهة النتائج المالية غير السليمة للسلطات السياسية المعنية والعجز المتصاعد لميزان المدفوعات نتيجة الحرب السورية وانعدام الحوكمة، قام مصرف لبنان باتخاذ خطوات عرفت أو سميت (هندسات مالية) لاستجلاب الدولار إلى البلد للاستمرار في تمويل عجز الدولة وإقراضها وفي تمويل العجز في المنحى التصاعدي في ميزان المدفوعات. كل ذلك في ظل التقصير الفاضح من قبل المسؤولين لمعالجة الأزمات المتفاقمة وتفادي الانهيار الذي بدأ يتجلى بين العامين 2017-2019».
ويؤكد بعاصيري أن «هناك ما يشبه التوافق بين العديد من الاقتصاديين بأنّ اللجوء إلى الاقتراض بالدولار لم يكن يتوافق والبيئة الاقتصادية للبنان. وكذلك الدولرة لاقتصاد يتوقف استمراره إلى حد بعيد على التدفقات المالية أو النقدية لمغتربين يحمل في طياته مخاطر كبرى. بالإضافة إلى الأسباب آنفة الذكر، كان هناك عدم إدراك عميق للمخاطر المتأتية عن إيداع القسم الأكبر من سيولة المصارف في مكان واحد وهو مصرف لبنان في هذا الحال. والأمر ينطبق أيضا على الإقراض الكبير لدولة تشوبها عوامل عدم الاستقرار إن لم نقل بذور التفكك».
ويرى بعاصيري أن «سياسة دعم البضائع التي قامت بها حكومة حسان دياب والتي استنزفت حوالي 20 دولار ضاع منها ما يقارب النصف من هدر وخلافه واستنزف القسم الأكبر من احتياطي النقد الأجنبي لدى مصرف لبنان. هذا البرنامج الفاشل والظالم لم يتوخ مساعدة العائلات المنكوبة بل ذهب خبط عشواء إن لم يكن مقصودا إلى مسارب الهدر والفساد».
ويرى بعاصيري أن «المعالجة الحقيقية تكمن في استعادة الثقة والتي يمكن أن تتمثل في خطة النهوض الاقتصادية المعدة من قبل الحكومة، والمنتظر إرسالها إلى المجلس النيابي لمناقشتها وإقرارها في وقت غير بعيد».
علامة والقطاعات الإنتاجية
يشرح الخبير الاقتصادي والمالي الدكتور بلال علامة أبرز الأحداث التي حصلت في عهد عون، والأسباب التي أدت إلى الانهيار. ويقول: «لقد توفّر كل شيء للرئيس ميشال عون، وتحقق حلمه فأصبح رئيساً، وبعد عامين، ربح تياره الانتخابات النيابية حائزاً على 29 مقعداً نيابياً، إضافة إلى أكثرية نيابية شكّلها مع حلفائه، كما نال مقاعد وزارية كافية وتعيينات للقادة الأمنيين ووظائف الفئة الأولى، وربما ما حظي به عون لم يحظ به أي رئيس جمهورية سابق، ومع ذلك لم نسمع منذ 6 أعوام وحتى اليوم إلا عبارة «نحن الإصلاح.. «وكان بدنا وما خلّونا».
ويقول علامة إنّه ليست هناك أسرار وألغاز في أسباب فشل عهد عون، «فهو منذ بداية العهد استسلم إلى أمرين: أولاً، أوكل إدارة العهد سياسياً لصهره الوزير جبران باسيل، فكان رئيس الظل، وانشغل في عملية توريثه الرئاسة، وكانت كل مواقفه ومقايضاته وقراراته تصب في هذا الإطار. ثانياً، استسلم لإرادة حلفائه، مما تسبّب في عزلة عربية ودولية للبنان، عجّلت بعملية انهياره، وأصاب الاهتراء كل القطاعات من دون استثناء، فغابت الدولة وخصوصاً أن الرئيس كبّل نفسه بسلاسل حديدية، بعضها لصهره الذي خاصم كل القوى السياسية وأعطى الأولوية لمصالحه الخاصة، وبعضها الآخر للحلفاء الآمرين الناهين في السياسة الخارجية والدفاعية وقرار الحرب والسلم دون العودة إلى مؤسسات الدولة وقراراتها».
المصدر: مجلة المجلة