يشغلني تهافت اعلاميي لبنان الفظيع على نشر المصائب وتمرّسهم السريع على انتقاء الصور العنيفة وتعظيمها التي تظهر مدى السادية في النفوس الملتقطة أو المنتقية أو الناقلة للمشاهد الواقعية المتخمة بالدماء والتشوهات التي تحضن امراضا دفينة مرعبة.
يمكنني ملاحظة جبال المفارقات والمسافات الشاسعة بين عين الغربي وعين العربي .ليس بين الكلمتين عربي وغربي من فروقات سوى تلك النقطة فوق حرف العين غباشا وغبنا وغرابة، وكأن الغربي أعمى أو يضع نظارتين سوداوين كي لا يحملق في مدى القتل الذي “يتلذّذون” به في بلادنا وفي ما يتجاوز العيون الراصدة.
هكذا تنشق وجهات النظر في موضوع تقنيات الصورة فنتساءل:
هل الصورة صدفة أو هواية أو مهنة، ومهنة عالمية لها ثقافتها وأصولها وقوانينها ام انها الملح فوق الجروح التي لا تنتهي؟
هل يجوز لنا بث تلك الصور المجبولة بالدماء والغرائز الحيوانية مهما كانت قويّة، أو ما جدوى المبارزات في نقل صور كوارثنا وقتلانا وكأننا نعيش في متابعة الأفلام والمسلسلات نداعب مخيلات المخرجين من السياسيين الأعداء والسينمائيين والأفلام ؟
ألا نتساءل معا لماذا هم يحجبون صورنا المشابهة أو المتجاوزة لكلّ العنف والجنس التي نراها في الأفلام عندما تكون واقعية وحاصلة في بيوتنا عبر حروبهم علينا؟
أتذكّر، مثلاً، صور حرب غزو العراق ٢٠٠٣ التي بدت وكأنها حرب لم تقع أصلاً، عندما اعتمدت القوات الأمريكية، استراتيجية حجب الحقائق وتغطيتها وتنقيتها وتنظيفها من الدماء والتشوّه . كانت الكاميرات لا ترى إلاّ بعيون جنود التحالف، وما خروجها عن المسموح به من التقاط الصور أو بثّها بما يثبط من عزائم الأمريكيين أو يرفع من حدّة التظاهر والاحتجاج على الحروب في عواصم العالم، إلاّ مسألة بقيت تحت دوائر الرقابة المشددة . ولأنّ الصور القوية الدموية تولد ميتةً غالباً في ثقافة الغرب، إذ تقع ضحية اعتباراتٍ كثيرة تحول دون نشرها قبل ثلاثة أيامٍ من حصولها، فإنها تصل غالباً متأخرة، فتُهمل أو تخسر الكثير من قيمتها الخبرية والتأثيرية، إضافة الى عوامل التحيز التي تهمل نشر هذا النوع من الصور الوحشيّة الصادمة المدانة سلفاً وأساساً .
وتذكرني هذه المسألة الاستراتيجية بالذات أيضا ، بصورة نسف برجي مركز التجارة العالمي في واشنطن وسقوطهما وهي التي لبست جسد القرن الواحد والعشرين وعقله ، فاحتلت مراكز الصدارة والاهتمام ومازالت في وسائل الإعلام في العالم، لكن الإدارة الأمريكية حجبت عن العين العالمية يومها ومنذ لحظة وقوعها إظهار نقطة دمٍ واحدة أو كشف ملامح جثة متشوهة . اكتفت، بالرغم من تقديسها للديمقراطية، وهول ما حصل بها، بتزويد وسائل الإعلام بنسف مئة طابقٍ وطابق أو نصف مليون طن من الجدران المتناثرة إضافة إلى صور طائرتين مدنيتين تمّ خطفهما واستخدامهما في التفجير، وهو الأمر الذي كان لا يمكن تلافيه أو حجبه عن عيون العالم، مهما كانت أبعاده ومراميه وتداعياته .
هكذا نطمح بحبرٍ بارد الى ثقافة التبريد أو التخفيف من صور الكوارث والمذابح والتشوهات والأهوال التي تقع، ليس مراعاة للقوانين الدولية التي وضعت عتبات تفاهم بين ما هو مسموح أو محظور نشره وبثّه أمام المشاهدين في العالم، بما لا يكسر العين والنفس والمشاعر، وهذه مسألة تختلف من شعبٍ الى آخر ، ومن عين الى أخرى، ومن ثقافةٍ لأخرى، لكن خجلاً من المشاهدين المتوجة آذانهم وعيونهم على تلك الصور الفجة القاسية .
قد لا نفهم، تلك العفوية والطفولية في ابراز الكوارث والرقص بالتوابيت والصور الدموية المرعبة في الاوقات كلها عندما تكون الحروب علينا من خارج حيث تشتعل الشاشات عبرالفضاء العالمي وترشق الدنيا بمناظر الأطفال المشوهين كما في حربي “إسرائيل” على لبنان وغزّة في ال2006 و،2008 و٢٠٢٢ .
لقد شوّهت الصور والتحليلات والتعليقات بين الشاشات الاجيال، كما بين الشاشات وأجهزة الإعلام الغربي . وراح كلّ طرفٍ من أطراف الصراع يلقي المسؤولية في ذلك على وسائل الإعلام بعدما ينزل بها إلى ساحات القتال وخصوصاً في الدول غير المنخرطة مباشرة في الصراع، فتتشوّه الحقائق ويعم الخوف والإحباط والامراض النفسية لدى الأجيال الطرية، ويولّد الاعلام وكأنه الزيت المصبوب على النيران المشتعلة بين الأطراف المتخالطة في القتل ولن يعثر قطعاً أيّ طرفٍ على الصورة التي تتطابق كلياً مع تصوراته ورغباته وأمراضه في نقل حيثيات الصراع ومخلّفاته، مع أنّ كلّ طرف يشعر بأن قضيته تعرض بشكلٍ غير مناسب، مع رجحان كفة الخسارة للعرب بشكلٍ لافت .
لنعترف، بأنّ استراتيجيات نقل الصور، قد تضاهي، بل تتجاوز في أحيانٍ كثيرة الاستراتيجيات العسكرية في كسب الرأي العام واستمالته عن طريق تقنيات صناعة الصورة وخصوصاً عندما نراعي بشكلٍ عام مسائل كبرى مثل التركيز على صلب المشاهد عند نقطة محددة مع استعمال التحريض والتحفيز والتبرير وعدم تنخيل الصور والمشاهد أو تصفيتها وحجبها ولغمها، وذلك بممارسة مهارات التكرار المقرف والهزء أو تحقير الخصم وفنون التلفيق والدعايات النفسية في التغطية والكشف، وحسن استخدام استراتيجيات التشويه كعلوم للتوجه إلى الدبلوماسية العالمية، أو في تجنيد الصور لغسل الأبصار والأدمغة والاستعانة بخلق الشائعات والتضليل وقلب الحقائق وتسويق الأوهام وغيرها من فنون الإعلام أو علومه التي كادت أن تختلط بمجمل الجوانب الذكية والبرّاقة من العلوم الإنسانية كافة .
صحيح أن العين تلتقط اللحظة وتؤبدها، وتدفع بها نحو العاطفة والشعور استدراراً لردود فعلٍ طبيعية أو موقف أو سلوك، لكن الذاكراة سرعان ما ترقد وتذهب الى نسيان لتنشغل بمدى بصري دائمٍ وغني هو أمراض ما بعد الحروب . وعلى الرغم من قوّة الصور ووظائفها الضاغطة على الجماهير، كما على مراكز القرار، فإنها بالمعنى الحقيقي للكلمة تبقى ناقلة لغبار الحروب والصراعات .
نحن نلتقط نتفاً من الواقع، ولو خرجنا من هول هذه النتف اللحظوية لأدركنا أن الصورة باتت بالرغم من بشاعتها خالية من أيّ مضمون، إذ لا يستفيد العدو من إذكاء الحروب الداخلية، بقدر ما يطمئنّ الى أزمنة ما بعد الحروب التي لن تلتقطها كاميرات الدنيا على الاجيال عبر الشاشات اللامتناهية.