نظّمت الحركة الثقافية – أنطلياس ندوة حول كتاب «الميثاق أو الإنفكاك الطائف ذلك المجهول لمؤلفه الدكتور نزار يونس، أدارها الدكتور علي مراد وشارك فيها إلى جانب الدكتور يونس النائب الياس جرادة والدكتورة زويا جريديني روحانا.
تطرّقت الندوة الى مختلف جوانب اتفاق الطائف وكيفية تطبيقه وما يعتري هذا التطبيق من مشكلات وسلبيات، وكانت إضاءة على كيفية تطبيق الطائف بالروحية التي وضع من أجلها وهي روحية تعزيز المواطنية وبناء الدولة المدنية في حين أنّ عملية التطبيق المتبعة حالياً تعزز الطائفية والزبائنية».
وتحدث يونس فقال: تناول الجزء الأول من الكتاب الظروف التي قادت وطننا إلى الاعتلال والتقزّم، جرّاء إصابته بوباء خبيث، استطاع، في غفلةٍ من الزمن، أن يتفشّى ويستفحل. فبدل أن يكون هذا الوطن المرصود للرغد والرقي منارة تضيء ومثالًا يُحتذى، شاء سوء طالعنا أن تتولّى أمره منظومة سياسية فاجرة، عملت على تسعير التشابك الطائفي كبديل عن قيام دولة مسؤولة عن رعاية مصيره، وصون وحدة شعبه، ما دفع بلادنا في النهاية الى آتون الحرب الأهلية التي اندلعت في العام 1975.
في العام 1989، عندما أتاح الظرف الدولي خروجنا من لجّة الجنون الجماعي، تنادى اشقاؤنا في جامعة الدول العربية لمساعدتنا، حيث تشكلت اللجنة العربية العليا، من الملوك والرؤساء العرب، التي تولّت الدعوة الى مؤتمر في مدينة الطائف لإعداد وثيقة دستورية لتعديل النظام السياسي القائم، ما «يحقق سيادة لبنان ويؤكد وحدته وهويته ويرسي الحرية والعدل والمساواة بين مواطنيه»، كما جاء في الدعوة الى مؤتمر الوفاق الوطني في الطائف.
أقرّ المؤتمرون، برعاية كريمة من اللجنة العربية العليا وبدعم دولي واسع ميثاق الوفاق الوطني، الذي قضى بالتخلّي عن نظام مجلس المِلل الرعوي المعطل لقيام دولة منجزة، ورسم الطريق الآمن لقيام دولة المواطنة اللاطائفية للعيش معًا، مواطنين أعزاء على أرض حرة ومحررة من الاحتلالات والميليشيات في جمهورية ديموقراطية عصرية مؤهلة لتكون منارة هذا الشرق وقاعدة نهضته الثقافية والعمرانية.
غداة المؤتمر في عام 1990، تبدلت التوازنات الدولية بعد حرب الخليج الأولى ما أتاح للأطراف الخارجية والداخلية فرصة القيام بانقلاب إجرامي على الميثاق، حيث تولّى الوصي المنتدب بحذاقة لا مثيل لها، تعطيل تنفيذه، وتشويه أهدافه، وتوظيفه فزّاعة وسلاحًا لتحقيق رغبات سلطة الوصاية التي تناقض كليًّا الميثاق، نصًا وروحًا.
السؤال المطروح اليوم : هل إن اتفاق الطائف، ميثاق وطني تأسيسي ملزم، قضى بالتخلي عن التمثيل الطائفي الفاسد والمستحيل، ورسم خارطة طريق واضحة ودقيقة لقيام دولة حقيقية علمانية ومرادها المساواة والعدالة والتوازن الوطني؟. أم أن الميثاق، خلافًا لنصوصه، ولإرادة مريديه تسوية ظرفية بين أمراء الطوائف والميلشيات ومن ورائهم «كلّن يعني كلّن» لتنظيم تحاصص البلاد والعباد على ضوء موازين القوى وسطوة السلاح؟.
في نصوص الطائف الواضحة الإجابة على السؤال المطروح والفصل بين الحقائق اللبنانية التاريخية وبين رواسب الفكر الطائفي المعاق الذي شوّه هذه الحقائق ومسخها وحول «ميثاق الوفاق الوطني» بفعل المؤامرة والغباء، الى سلاح للاشتباكات والمزايدات الطائفية والمذهبية والعشائرية. من المحزن، إِنَّ الأكثرية الساحقة من المواطنين من جميع الطوائف والشرائح الاجتماعية والعمرية والمناطقية ، ما زالت على جهل مُطبق للميثاق، نصًا وروحًا ومآلًا، إذ إنه تحوّل، من خلال حذاقة الوصي المنتدب وأعوانه إلى بطل مسرحية درامية هزلية عنوانها: «جحا صدّق كذبته» تدور فصولها حول التشابك الطائفي والتراشق الكلامي بين أطراف المنظومة السياسية حول ما يُطلق عليه تسمية «الميثاقية» المزعومة والحصص المتخيّلة، وحقوق الطوائف والمذاهب المهدورة، وجوائز الترضية الشائنة للفوارس مالكي هذه الحقوق.
سؤال آخر يتبادر إلى الأذهان وهو: هل نحن شعب ولنا هوية وطنية خاصة بنا؟ هل نحن مواطنون في كيان وطني تعدّدي حضاري أم إننا شتات رعايا في كيانات طائفية ومذهبية وعشائرية؟ وهل إن الانتماء الى هويتنا الوطنية اللبنانية يتقدّم على ما سواه من انتماءات داخل الحدود أو خارجها؟ أم أننا واهمون؟
فإذا كان انتماؤنا إلى مذاهبنا وطوائفنا وأوليائنا يتقدّم على انتمائنا إلى الوطن الذي نعيش فيه، فما حاجتنا إلى العيش معًا؟ ولماذا لا يقبع كلّ طيف منّا في بقعة من هذه الأرض المستباحة، ليمارس فيها صيرورته كما يشاء؟ وما جدوى الكلام عن العيش معًا، وعن مشاريع الدولة الموحّدة، وعن مشاريع الفيدراليات والكانتونات والمركزية الإدارية واللامركزية؟
أمّا إذا كنا نعتقد أننا شعب صاحب هوية وطنية لا يضيره تنوّع أطيافه، وان لنا وطنًا فريدَا له خصوصيته المكرّسة في تآلف وتلاقح مكوناته ما يُضفي على عيشنا معًا، أبعادًا روحية سامية، تتخطى أقدارنا الفئوية، ولا تعود ملكًا لنا. يصبح حين ذاك من واجبنا سلوك السبيل الأضمن لقيام دولة ديموقراطية معاصرة لشعب موحد الهوية والتطلعات. خلافًا للرأي السائد الخبيث، فإن فلسفة الميثاق، قضت ببساطة بألّا يعطي أي من الأطراف الطائفيين ما له، للطرف الآخر، بل أن يعطيا معًا ما لديهما للدولة اللاطائفية المنشودة ولتجنّب عودة الأسباب التي قادت إلى الكارثة.
فقد اختزل الميثاق، في نصوصه المكتوبة الواضحة والدقيقة، المرتكزات التأسيسية للوفاق الوطني، ولم يعد ثمّة مجال للاجتهادات أو التنظيرات. فهو يقضي باستبدال النظام السياسي القائم على التمثيل الطائفي بنظام سياسي لاطائفي، بدون محاصصة بين المذاهب والطوائف، بحيث لا حقوق للمذاهب على حساب الدولة ومواطنيها، ولا تخصيص ولا تقنين لأي مذهب أو موقع في السلطة لمذهب أو لفئة أو عشيرة. الميثاق أخذ من كل الطوائف ما ليس لها وأعاده إلى المواطنين.
كان من المنتظر اعتماد بنود الميثاق، الذي قضى بأن لا شرعية لأي سلطة تناقض احكامه، أساسًا لتعديل الدستور اللبناني بعد الطائف، على اعتبار أن كلّ ما ورد فيه ملزم، وله الأولوية المطلقة على السلطة التشريعية ورأي الأكثرية والأعداد والتعداد، وذلك وفقًا لتراتبية المعايير القانونية Hiérarchie des Normes Juridiques المتعارف عليها في المبادئ الفقهية. يشكل الميثاق بحكم موضعه الدستوري والقانوني العقد التأسيسي الملزم الذي ارتضاه اللبنانيون أساسًا لقيام دولتهم الحاضنة لخصوصية وطنهم وفرادة شعبه الروحية والثقافية، أما الدستور فهو هندسة قانونية للآلية التي يعتمدها المشرّع لعمل السلطات وتعاونها وتوازنها وفقًا للمعطيات المتغيّرة باستمرار وللتطور الاجتماعي والاقتصادي، فمن غير الجائز أن يطلق جزافًا، على الدستور اللبناني المعمول به حاليًا تسمية دستور الطائف.
لحظ الميثاق في سبيل معالجة رواسب الوباء الطائفي مرحلة انتقالية مخصصة لاستكمال تنفيذ مندرجاته، لا لنقض مبادئه. كان من الطبيعي أن تخصص هذه المرحلة الدقيقة، للتصدي، بحكمة وتروٍّ، الى مكافحة الوباء الطائفي والأسباب الكامنة وراء تفشيه ، كان ذلك للقضاء عليه لا لمأسسته، كما حصل تبعًا لتجميد تطبيق المادة /95/ من الدستور التي أناطت بأول مجلس نواب مُنتخب على أساس المناصفة بين جناحي الوطن الموجبات التالية:
(i) – تسمية أعضاء هيئة الحوار الوطني من شخصيات فكرية وسياسية واجتماعية، على أن يرأس هذه الهيئة رئيس الجمهورية، ويشارك فيها كلّ من رئيس مجلس النواب ورئيس الحكومة.
(ii) – إقرار الإجراءات والقوانين التي تقترحها هيئة الحوار الوطني لإلغاء الطائفية ورواسبها ، يلاحظ أن إلغاء الطائفية تعني فصل الدين عن الدولة تمهيدًا لإلغاء الطائفية السياسية.
كان من المنتظر إذًا أن تبدأ المرحلة الانتقالية غداة انتخاب أول مجلس نواب بعد الطائف، على أساس المناصفة بين المسيحيين والمسلمين وأن تنتهي، بعد إقرار إجراءات قيام دولة المواطنة العلمانية المحررة من قيود الطوائف وعار التخلّف، ولكن الانقلاب على الميثاق وتعطيله جمّدا تنفيذ هذه المادة في سبيل استدامة المحاصصة الطائفية الشائنة، ولو حصل ذلك خلافًا للميثاق.
فمن الواضح أنّ الميثاق لم يُجِز خلال هذه المرحلة الانتقالية توزيع التمثيل الطائفي أو تقنينه لا في الرئاسات ولا في الوزارات، لا في الأعراف ولا في النصوص. فبدعة «الترويكا»، التي تمّ إرساؤها خلال ولاية الرئيس الهراوي والتي زيّنت اقتسام السلطة بين رئاسات طائفية، لا تتعدّى كونها واحدة من الألغام التي زرعها الوصيّ لتشابك المؤسسات الدستورية والاستعاضة عنها بفتاوى الوصاية وإملاءاتها.
كما شاءت سلطة الوصاية، فقد تم استبدال إجراءات المرحلة الانتقالية ببدعة الديموقراطية التوافقية التعيسة تمهيدًا لانزلاق الوطن على طريق الزوال.