عندما تُفصَلُ دائرةُ القلبِ عن دائرةِ السّلوك، يُحتضرُ الاقتدارُ على طَيِّ الانحطاطِ، وعلى تَكسيلِ صحائفِ السَّقام، فلا يعودُ الوعيُ آلةً في خدمةِ الرّوح. لذا، بِتنا، اليومَ، تَوّاقينَ الى تباشيرِ صَحوةٍ، بدونِها، ما نُقِلَت في الفرحِ قَدَم. والمحبّةُ، وحدَها، هي طلائعُ الشَّوقِ الى هذا الفرح، والمَطافُ الى عناوينِ انزياحِ العَتمةِ عن وَجهِ طَمأنينةِ القلب.
المحبّةُ كالإيمان، لا يمكنُ حَصرُها في تعريف. إنّها مبدأُ القدرةِ على فهمِ الله الذي سلَّمَ لها سرَّه، وأحاطَ بها هَواه، فباتَتِ العزيزةَ التي إنْ ضَلَلْتَ هَدَتكَ، وإنْ ظَمِئتَ رَوَتك. إنّها صراعٌ بين الترابِ والنّور، ينحسرُ عن صباحٍ شامِسٍ، حتى لا يعودَ أنينُ الرّمادِ ينسجُ في القلوبِ خشونةَ القبح. وهي مواساةٌ لنفسٍ تُعاني فحيحَ التَّماهي بين الخيرِ والشرّ، تُنهِضُها من انحنائِها جَناحاً مَكسوراً، لتعهدَ إليها بِدَوْرِ البَطَل.
عندما يُساقُ الشّعورُ الى دُنيا الجُدران، فلا يلحُّ عليهِ دَويُّ الوجدان، تعبرُ المحبةُ بقوافِلِ مَؤونتِها، الى بِساطِه، لا لِتقترعَ على ما تَبَقّى له من ثِياب، بل لتعقدَ معه مُصالحةً تحميهِ من المَعاطبِ، وتُنَجّيهِ من قبضةِ التَّلَف. من هنا، لم تكنِ المحبةُ، مرةً، مُتَحَيِّرَةً في دموعٍ تكُرُّ من مُقلَة، لأنّها تُثَمّرُها في إطفاءِ حريق.
ليسَتِ المحبةُ مَذهباً فلسفياً ما بعدَ اليأسِ والخوف، أو ما قبلَهما، لتكونَ جلّاداً يُحَكِّمُ العقلَ بالقلبِ، والوعيَ بالخيال، لكنّها نَمَطٌ عاطفيٌّ حُرٌّ، أو حالةٌ تنويريّةٌ ترفضُ قواعدَ تَمَزُّقِ النفسِ بحروبٍ داخلية، لتركبَ زورقَ الأملِ والحكمةِ المُتنَوِّرة، بِرَبطِ العاطفةِ بالوَعي. من هنا، لا تَطفو المحبةُ على سطحِ غَمرٍ نورانيٍّ لتَنعَتِقَ من أدرانِ الأرض، لكنّها تُحاولُ أن تُعيدَ صَهرَ كيانِ الإنسان، حتى لا يَدفعَ، مُجَدَّداً، ثمنَ الخطيئةِ الأصليّة.
المحبةُ لم تُجبَل من طين، بل من صَفاءٍ صُنِّفَ وَكيلَها الحَصريّ. فهي وسيلةُ تَصَدٍّ للممنوع من جلاءِ القلوب، لا تُقيمُ مقارناتٍ وموازناتٍ لِتَغدوَ لُغزاً، بقَدرِ ما تشكّلُ معرفةً صالحةَ العِبرةِ، تُقَدِّمُ للإنسانِ، في احتكاكِها بأشياءِ قلبِه، مفاتيحَ للوصولِ الى حقيقتِه، فلا يُضَيِّعُ هويَّتَه، ويحسمُ دَورَهُ المُتَحَيِّرَ في تحديدِ أحوالِ الفوزِ أو الهزيمةِ، في الصّراعِ اللّامتناهي مع الوجود.
المحبةُ حريّةُ القلب، سلَّمَ لوَحيِها زمامَه، فكانت له الأُذُنَ والعين. ليسَت صورةً تُجَمِّدُها قواعد، إنّها أَخذٌ من بحرِ القلب، ثمَّ دَفعُ ما أُخِذَ الى هذا البحرِ، ثانيةً. هي مقاماتُ الزمنِ الآمِن، أو العلاقةُ المُنصِفةُ بين الرّوحِ وبين الكَون، تفيضُ عنها حالةٌ هي أقربُ الى رجفةِ مَن يتلقّى النِّعمَ من ربِّه، والنِّعَمُ تستوحشُ بِقِلَّةِ المحبة.
المحبةُ ليسَت تمثالاً وثنيّاً، يسهلُ رَجمُه، إنها قراءةُ الذّاتِ للذّات، أو البصيرةُ المُهَلِّلةُ لمصباحِ الله، ترى الذّاتُ، على ضوئِها، سبيلَها في صعودِها صوبَ مَراقي الطّهر. بين المحبّةِ والرِّضى تَعاهُدٌ وتَواثُق، فليس يُدركُها زمنُ بَوار، أو عصرٌ زاهِرٌ وعصرٌ فاتِر، أو مرحلةُ إشباعٍ ومرحلةُ تَصَحُّر… إنّها كالوِحدةِ، لا تنقَسِم، مُتلاحِقةً كصوتِ النّاي.
المحبةُ تُخمِدُ نارَ الاشتياقِ الى الله، عندما تُلهِبَ أنفاسَه في الحنايا، حيثُ يُشكَلُ الطُّهرُ على خَصرِ كلِّ نبضٍ من نبضاتِها. وبقَدر ما المحبةُ إِلفَةٌ، هي ثورةٌ، وإنْ في خَفَر، لا تُسَعِّرُ التَّحريضَ، بقَدرِ ما تدعو الى الإفادةِ مِمّا انتفضَت عليه، لتنهضَ به الى الرِّضى. ومن دعائمِ الإنصافِ الإشارةُ الى أنّ ما يُعرَضُ للمحبةِ في عُقرِ ثورتِها، يُغايرُ ما يُعرَضُ لِمَن يروِّجون البضاعةَ نفسَها.
أيتها المحبةُ، أنتِ القطبةُ العلاجيّةُ لِمَن تَطاولَتِ النَّكباتُ الى صَميمِه…
واللهِ، لَأَجعلَنَّكِ حَظّيَ من دُنياي.